الورقة 26
بعد الأوراق، تبقى الشجر, 2/2
* هل حقا كل شيء يقال أم أن هناك «مالم يقل بيننا»؟
– لا كل شئ يقال، ولا كل شئ يفعل. يقول جورج برنارد شو: «عندما تطالع سيرة ما تذكر أن الحقيقة دوما غير قابلة للنشر.» وأظن أنني أتفق معه إلى حد ما، ليس برغبة إخفاء الحقيقة بقدر ما أن هناك أكثر من حقيقة، ولكل حقيقته كما يراها ويؤمن بها. مثلا لو سألت إخوتي الآخرين عن أبي، فكل واحد منهم حتما سيعطيك صورة مختلفة عن هذا الأب الذي أقدسه وستكون بدورها حقيقية. فالأب الذي عرفته أنا في الستينات ليس هو الذي عرفه إخوتي في الثمانينات والتسعينات. وأذكر أننا كجيل أول من أبنائه كنا نندهش من معاملته لإخوتي من الجيل الثاني ونتعجب كيف فقد صرامته وأصبح أكثر تسامحا.
كذلك علاقتي بأمي كما أراها ليست كما يراها إخوتي، كما أنني بدوري لست نفس الأم بالنسبة لأبنائي. فكل علاقة بين اثنين لها فرادتها، بل هي استثناء كما يقول الشيخ ابن عربي» وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا».
ماجاء في هذه السيرة هو انعكاس لمرآة فاتحة.. لوجهها الخاص وللوجوه التي عبرت حياتها في هذه اللحظة بالذات.لو أجرينا مثلا هذا الحوار بعد مرور سنوات أو قبلها، ربما تكون أجوبتي مختلفة عن الآن وقد أقدم وجها آخر لأن نظرة الإنسان للأشياء تتغير، ومع المسافة تبدو الأشياء مختلفة.هذه حكايتي كما أراها الآن لا أكثر.
نحن مجرد حكايات يا عزيزتي سنموت نحن وتبقى الحكايات.
* في هذه الأوراق حفرنا عميقا في الماضي، ماذا عن المستقبل؟
– أنا اليوم في السن التي بدأ فيها إدمون عمران المالح الكتابة الإبداعية، أي بعد الستين. فماذا لو كان حقا آخر الطريق أوله؟ ما أتمناه هو أن أبدأ مثله بداية جديدة.
* كيف تتوقعين ردة فعل القراء، وهل على الكاتب أن يكون ما يكتبه أو العكس؟
– القارئ دائما يتملكه فضول كبير حول السيرة الذاتية ويحب قراءتها لأنها تقربه من حياة الكاتب الحقيقية، وقد تطرقت إلى هذا الموضوع في روايتي «الملهمات». فالقارئ يضع هالة حول الكاتب ومن خلال كتاباته يُكوِّن له شخصية معينة.
لكن يبقى السؤال: هل هذه الشخصية بالفعل مطابقة لسيرته الحقيقية؟
الكاتب هو ما يكتبه، وهوما لا يكتبه في نفس الآن. عندما يكتب فإنه يحفر حتما في ذاته وفي تجربته. بحيث كثير من السيرة الذاتية يدخل بوعي أو بدونه في عملية الكتابة التي يحفها الغموض.
هل عليه أن يكون ما يكتبه؟ هو ليس مطالبا بهذا، عليه فقط أن يكون صادقا مع نفسه في اللحظة التي يكتب فيها.
* إلى أي حد يتحقق ذلك الصدق الذي ينتظره القارئ في السيرة الذاتية دون أية انتقائية؟.
– الذاكرة نفسها انتقائية. والصدق نسبي كما الحقيقة نسبية.
كثيرا ما تكون سيرة الكاتب الذاتية سبب نزاعات مع أفراد محيطه الذين قد لا يتفقون مع طرحه ويتهمونه بالزيف.هذا لا يعني أنه لم يكن صادقا في ما حكاه، لكن طريقة تفاعله مع أحداث معينة هي ما يختلف عن تفاعل آخرين شاركوه نفس اللحظات . كل منا يعيش الحدث بطريقته وتتدخل ذاتيتنا ومرجعياتنا الفكرية والثقافية في تقييمنا للأشياء والأحداث.
* كلمة أخيرة لقرائك؟
– أنا سعيدة بهذه المغامرة الجميلة التي منحتني فرصة إعادة عقارب زمني إلى الوراء للغوص في غرفي المنيرة والمظلمة. هي مغامرة لم تستهوني من قبل لكنها بفضلك حدثت اليوم، وكانت حقا سفرا ممتعا لي وأتمنى أن يكون كذلك لقرائي. فشكرا لك.
الحلقة 27: “بعد الأوراق، تبقى الشجرة: 2/2″، الاتحاد الاشتراكي، الأربعاء 31 يوليوز 2019، العدد 12301.