عَبد الوَاحْد ايْت الزِّين: بَاحِث فِي الفَلْسَفَة والفِكْر المُعَاصِر
هَمْسَةُ شَمْسٍ: “العَوَاطِفُ أسرَارُنَا والجِنْسُ
سرّنَا الأَكْبَر نُمَارسُهُ فِي الظّلاَم،
وفِي العَتمَةِ نتَحَسّسُ أَعْضاءَنَا
ونَحْنُ نتَصَبّبُ شُعورًا بالذّنْبِ”
انْعِتَاقُ الرّغْبَة، ص 49.
فَاتِحَةٌ بشأنِ فَاتحَة ونُصوصُهَا…
“ولكم في الكتَابَة حَياةٌ يا أولِي الألْبَاب”: كيفَ تصيرُ الكِتابةُ مأْوانَا الذّي يقينَا قَساوَة الوُجود؟ ومَا معنَى أنْ يقودَنا نوْمُ الحرفِ علَى الوَرق، إلَى استشْعارِ أوْجاعِ الحيَاة؟ ما معنَى أن تقولَ الرّواية الحياةَ فِي عدمِها قبلَ وُجودهَا؟
الرّوايةُ بوصْفها علامَة الزّمَن الحَديثِ، كمَا رَأى مِيلاَن كونْديرَا، شكّلتْ على امتدَادِ قرونٍ منْ تحقّقِها كضربٍ منْ ضروبِ الإبْداع الإنْسانِيّ، فرصَةً لملاقاةِ العَابر، ذاكَ الذّي حضورُه في عبورِه، فلا نكادُ ننتبهُ لهُ، لفَرْط اسْتهلاكِ المُقيمِ (الحَاضِر) لذَواتِنا. وكأنّي بالرّوايَةِ صفيحةُ خشبٍ، تشبثنَا بهَا فرصتنَا الثانيَة لنَعيشَ ونُنقذَ أنفسَنَا من الغَرق: ألَسنَا نحيَا عصرَ الغَرقِ الجماعيّ إلَى سطحٍ لاَ عمقَ لَه ! لَقد انتبَه كُونْديرَا إلَى سمَات عالَم اليوم، حيثُ اقتيادُ اليوميّ للإنْسان إلَى شَبَكَة معقّدةٍ منَ الخيوطِ التّي شيّدَت لكينونَتِهِ جُحورًا صوّرتْها لهُ قصورًا، فباتَت قصورُه فضَاءَات مُوحشَة، هجَرَها هجْرةً “طوعيّةً” ليقيمَ فِي جحُورِه: انْتشاءُ السرْعَة مَحلّ لذةِ البطء، إغْرَاءُ الخفّة محلّ رزانةُ الثقْل، التذاذُ المَاضي محلّ اشتهاءُ الحاضر. لا يرتبطُ الأمرُ بأَيِّ مانويّة زَائفَة تستعجِلُ التطويحَ بشكلٍ ميكانيكيٍّ باختياراتٍ فِي خانةَ الظّلامِ وتَرمِي بنقيضِها إلى فرقةِ النّور، بقدْرِ ما السّعيُ إلى توْجيهِ النظر إلَى فتكِ نجومِ العصرِ بأبطالِ الماضِي، والوُقوفِ علَى الشّكلِ الذي صارَ بهِ الأمرُ وباتَ عليه.
فِي الوقْت الذِي ضيقَت فيهِ النّفُوسُ ب “ثقَافةِ الجُموعِ”، وأحْكمَت فيهِ الصّورةُ قبضَتهَا علَى العصْر، واشتدّ فيهِ الحِصارُ على حواسّ النّاس، تضطلعُ في نظَري الرّوايَة –والأدبُ عمومًا- بمهمّةِ جماليَّةٍ لاسْتلالِ الإنْسانِ ممّا هوَ فيهِ وعليهِ، إلَى ما يمكنُ أنْ يكُونَهُ. الرّوايَةُ شطّ أمَان الأنْفُسِ المنْهكَة منْ تعبِ الواقِعِ، هُناكَ حيثُ العالَم لا يحتملُ شُرطةَ الكلمَة، ويتمنّعُ على أسئلةِ المخَافرِ، هناكَ حيثُ ينتمي “اللا مُنْتمِي” فَوحْدَه انتماءٌ كهذَا يقهرُ جوعَ الجموعَ وشبعَ الجاهز. الكتابَةَ حيث “الانْتماء إلَى اللا انْتِماء” أقوَى من “المَكتوب”، فلا “مكْتوبَ” يحدّدُ زمنَها غير الحرية. قدرُنا في الروَايَة أن نختبرَ قدْرَتنا علَى أنْ نكونَ أحْرارًا أو لاَ نَكُون. بِئسَ حظّ كاتبٍ، يستدْعِي حرّاسًا فِي ذِهنِه، يُنصبُون المَشانِق أَمامَ فكْرةٍ تَتأهبُ لِتعانِق المِدَاد؛ تَعيسٌ هُو حَظّ فِكْرةٍ اخْتَارَت الكَاتِب الخَطَأ، وتَعيسٌ مرّتينٌ هو قارئٌ، يقرأُ نصّا، لا يقْوَى علَى قولِ نفْسِهِ.
مُناسَبةُ هَذهِ الالْتفاتةِ نُصُوصٌ رِوائيّة، تأْبَى إلاّ أنْ تَقُولَ نَفْسَهَا، لأنّ الحرّيَة نَفَسَهَا الذّي بهِ تحْيَا دونَ غيرهِ. نُصُوص تَستَرْخِي الحياةُ عَلَى ظلَالِ حروفِهَا، فقَد ضمنَت لهَا شروطَ أنْ تكونَ نفسَها. هيَ نُصوصُ فَاتحَة مُرشيد، التِي نَحتَت لنَفسِهَا أُسلوبًا خَاصّا لقوْلِ ما ينْبغِي قولُه بِصَدَد إشْكالاَتٍ قلّمَا تنْقَالُ، نظرًا لأنّ ثقَافَتَنَا لمْ تتَمرّن جيدّا على “أَدبِ الحرّيَة”.
شُخوصٌ مُرشيد مربكَة جدّا للمألوفِ والاعتيادي، تتسلّلُ إَلَى عتْمَات ظُلمتُهَا نورُهَا الأوْحد. هذهِ الشّخوصُ مَنفذٌ مُغرٍ للنّفاذِ إلَى مَا اسْتعْصَى قولُهُ علَى لُغة تَوشّحَت أوسمَة المنعِ والحضرٍ منذُ غزوِ “الأدب النظيفِ” لاسطبلاتِ مُدنِ الصّحراءِ.
عميقةٌ تلكَ الأسئلةُ التّي ترمِي بهَا مُرشيد فِي طريقِ ثقَافةٍ لمْ تتعلّم أدب الأطْفالِ بعدُ: ثقَافةٌ أقفَلَت منَافذَهَا إلَى الجمَال، لمّا اخْتارِت دفْن روَافدِهَا المتعدّدة لصالحِ اختيارٍ فقهيٍّ يؤبّدُ خُصُومَتنا معَ منَابعِ الحياةِ، حتّى صرْنَا نقيمُ في الموْت، بعْد أنْ الْتَهَم فقهُهُ ثقافَةَ الفَرَح التِي ما كَانت غريبةً عنْ فضائنَا العربيّ الإسلاميّ على كلّ حَال.
يَسْتوقِفُنا النّظمُ الرّفيع لمُرشِيد لجملةِ إشكالاتٍ مَازالَت علَى رأسِ جدولِ أعمَالِ الفلْسفةِ والعلْم، فنُقطًا منْ قبيلِ: الموت والحياة، والزّمن والجسَد، والحبّ والكتابة، والرغبة والأمل، والحرية والقدر، والوهم والحقيقة، وغيرها من ألغاز الوجود -التي وإنْ زعمَ الخطَابُ الدينِيُّ استيفاءَ آيِها، فإنّ عَوالمَ إشْكاليّة جديدةً سَحَبتْ منهُ حقّ احْتكارِ الكَلامِ فِي شؤونِهَا-عقاربُ ساعةٍ أبدِيّةٍ يَسيرُ الزّمانُ وتبقى هي شاهدُ رخامٍ على حَياةِ موتِهِ…
“لحظات لاغير”، “مخالبُ المتعة”، “الملْهماتُ”، “الحقّ في الرّحيل”، “التوْأمُ”، “انْعتاقُ الرّغبةِ”: إيماءَاتُ ليلٍ وانْعطافَاتُ طريقٍ أوّلهُ آخرهُ، لمُلامَسةِ سَوادٍ قابعٍ فِينَا، ولأنّنا كائِنات تخافُ “الحَقيقَة” وتهابُهَا، فإنّ نختارُ اسْتبدالَ الطّريق بآخَر غيْرُها، تلافيًا للاصطدامِ بجبرُوتِهَا، لكنّ الرّوايَات المومأ إليهَا أعلاهُ لمْ تتهيبّ صخرَ السّوَاد، بلْ أقبلَت عليْهَا إقبَالَ المتلهّفين لتنحتَ منهُ لَوحَات حيّة، تشعرُ معهَا بدبيبِ الصخْر وهوَ يَسْتعيدُ حَياةً قبضَهَا منهُ الزّمن. أوَ لَيسَت الكِتابَةُ مقاومةٌ لإرادةِ الزّمن، وإصْرارٌ علَى إرْباكِ حسَابَاتِه؟
لنْ يتسعَ المقامُ للوقوفِ عَلى كافّةِ رِوايَات مرشيد، لهذَا سنَكْتفِي ضمنَ هذَا “المُتاحِ الورقيّ” بالتطرّق إلَى إصْدارِهَا الحديثِ العهْدِ، الّذِي حَمَلَ عُنوان “انْعتاقُ الرّغبةِ”، حيثُ، وعلَى امتِدادِ 224 صفْحَة فتحَت مُرشيد بابًا مُوصدَا آخر، يرتبطُ ب “التحوّلُ الجنسيّ” وما يتّصلُ بهِ منْ الْتباسَات. فمَا الّذي رَامَتْهُ مرشيد باقترابِهَا الأَدَبيّ والفَلْسفيّ منْ موضوعٍ يوضعُ في خانةِ “الممْنوعِ”؟
اسْتهلالُ بشأنِ “استِهلال”…
“الأَسْوأُ ليْسَ أَلاّ نْنتظرَ شَيْئًا مِن أَحَد، بَل أَلاّ نَنْتظرَ شَيْئًا منْ أنْفُسِنَا”، اسْتهْلاَلٌ يقولُ الرّوايَةَ ورِهَانَاتِهَا. يكَادُ يعبّرُ هذَا القَوْلُ الاسْتهْلالُ عنْ مأساةِ الإنْسَانِ عِنْدَمَا يمْسِي غريبًا عنْ نفسِهِ. انْكسارٌ بَليغٌ أَنْ تخيّبَ نفسُكَ أمَلَكَ، أنْ يكونَ ثمةَ جِدارٌ حَجريٌّ يحجُبُ عَنكَ رُؤْيَة أنَاكَ. كنْ نفْسَكَ، وأنّى لكَ أنْ تكونَها وأنتَ لستَ إيّاهَا. حِينَمَا تَهْجرُ نفْسكَ وتتّخذُ غيْرَهَا وَطنًا، آنئذ، وآنئذ فقط يحْدثُ الأسْوأ: اغْترابٌ وُجوديٌّ فظيعٌ يجعلُ الانْتظَارَ ذَخيرةً فقَدَت أسْبَابَ تلْقِيمِهَا.
أُحْجِيتُنَا الغَامضَة جَسدُنا: حينَمَا نختَارُ أنْ نَلْبَسَ أنْفُسَنَا…
وهُو أحْجيةٌ لأنّ ألْغَازًا كثْيرة تُحيطُ بِه. سؤالُ الجسدِ سؤالٌ مُتمدّدٌ على بسَاط تَاريخ الإنْسانيّة. وإن أسْهمَ التَصوّر الفَلسفيّ الكْلاسيكيّ في ربطِ السّعادة بالتحررّ من أوهامهِ ومطالبهِ، فإنّ تصورًا فلسفيا موازيًا، ارْتَقَى بِه إِلَى مَنزلَة المُماهَاة بَينَهُ وَبَينَ الذّاتِ، “لَستُ إلاَّ جَسَدِي” قَالَهَا نِتشه فِي مُحكَمِ إنْجيلِه (هكذَا تكلّمَ زرَادْشت)، وَوَجَدَت صِيغَتَهَا الأَكثَر اتّضَاحًا في عصْر “الجسَد”. أَ ثَمّةَ فَاصِلٌ بين “أناي” و”جسدي”؟ يُنبِئُنَا العصرُ بعَلاَمَاتِه أنّ عَالَمنَا عَالمُ أجسادٍ تائهَةٍ، لاَ تَلْوِي عَلى شَيء سِوَى الإِفصَاح عَن خيُوطِ سيَاسَاتٍ ترْسمُ لَهَا مجَالَ حركَاتِهَا وسَكَنَاتِهَا.
الجسدُ سياسةٌ لهَا قوانينُها وتواطؤاتها، وإنْ كانَ الجسدُ سؤالًا سياسيًا دومًا، فإنّهُ في “انْعتاقِ الرّغْبَة” موْضُوعٌ جمَاليّ بامتيَاز. كَعادَتهَا فِي لقَاءَاتِهَا بمواضِيعِهَا، تختارُ مرشِيد شخُوصًا لتُؤشّرَ علَى الطّابعِ الإشْكاليّ ل”الجسَد”. ليستِ الكِتابةُ فِي سرديّاتِها الرّوائية انْعكاسًا ل”قنَاعةٍ مذهبيّة” مغْلقةِ، ولا تعبيرًا عن رَايةِ “قَبيلَة ذهنيّة” مَا. إنّها، انفِتاحاتٌ إشْكاليّة على تيْمات هيَ بطبْعهَا لا تحتمِلُ أيّ رؤيةٍ متَشَنّجة وانفِعاليّة. يتأبّى الجسدُ جمَاليًّا عنْ أيّ محاوَلةٍ للتّموقفِ المُسبقِ منْ أسْئلتِهِ؟
وَثيقٌ هو الرّابطُ بين الجسدِ وأسئلتُه والرّغبةِ وسُلْطَانُهَا. قارّةُ الرّغبةِ قارّةٌ بعِيدةٌ منْ شدّة قربِهَا، ولَطَالَمَا شَكلَت انْشغَالاً رَئيسًا اهْتمّ بِه الأُدَباءُ والفَلاَسفَةُ عَلَى حَدّ سَوَاء، عَاشَ الإنسَانُ رغباتهِ كمَا هيَ، قبلَ أن يأتي زمانٌ تَحدّد فيهِ المَاينبغي أن نرغبَ فيه، والمايتوجبُ الابتعاد عن الرغبة فيه، فهلْ لجمُ الرّغبةِ كفيلٌ بالحدّ منْ ُجموحِها؟ حينَما يتصلّ الأمرُ بالجسدِ وهويّته، فإنّ نصّا عظيمًا، يُوقِفَك علَى تَعقيدِ الموضوعِ هو الأجْدَر بأن تنصتَ لكلِماتِه.
“انْعتاقُ الرّغبة” اقْترابٌ جمَاليٌّ منْ منطقةٍ ملغومَة: الهويّةُ والحرّيةُ عَلامتَا تشْويرِهَا. مَاذَا لوْ وَجَدْت نَفسَكَ في جَسدٍ لَكَ ولَيسَ لكَ؟ جَسَدٌ فيهِ شيءٌ منكَ، ولَيسَ هوَ أنتَ. مَاذا لَو كُنتَ طَبيبًا خَبيرًا في جرَاحَة التّجمِيل، وتَوصّلْتَ بَبريدِ مَجهولٍ تَعرفُ فِيه أَنّ وَالدَكَ اخْتارَ أنْ يَكُون نَفسَهُ: أَعنِي اخْتارَ أنْ يَنْسجمَ معَ رغبتِه، وهوَ الّذي لهُ جَسدُ “ذَكَر” ورُوحُ “أُنْثَى”؟
منَ الصّفحات الأولى للرّواية، يظهرُ لَك الوجهُ الإشكاليُّ لموضُوعهَا: “وَجعٌ وجوديّ” بتعبيرِ “عز الدّين” (من شخوصِ الرواية)، ذاك الذّي تترسمُ فيهِ مساحات فاصلة بين “الروح” و”الجسد”، خصُوصًا حينَما يكونُ “السّسْتام الثقَافيّ” قاسيًا، وتكون “الهويّة الجنسية” مقررة سلفًا بحسبِ كنّاش الحَالَة المدنيّة وأَقدَار الخَريطَة الجِسْميّة.
مَا مَعْنى أنْ يَلْبسَني جسَدِي وألْبسُه؟ أ يكْفي ظَاهرِي الجسميّ لجَنْسنتِي؟ ألَم يَتحدّث الفكرُ المعاصر عنْ احتِجابِ الحقيقَةِ خلفَ طَبقَات الظّاهر؟ إن أُمورًا من فَرطِ ظهورِها تُفقدُنا القدرةَ عَلى التقَاطِ حَقيقتِها، ولهَذَا فَإنّ “فَريد” لمْ يسألْ نفسهُ يومًا عن “الأرواحِ القابعةِ” خلفَ الأجْسادِ الممدّدةِ علَى طاولَةِ تجْميلهِ.
بِمُصَاحَبَتنا لِفرِيد ابْنُ عز الدّين، تُعرّفُنا مرشيد على عالمِ “المُتحوّلِين جنسيّا”: جهدٌ واضحةٌ آثارُه فِي تعريفِ الآخرينَ على عالَمٍ استحكمتْهُ صور نمطيّة جاهزة، وليسَ “فريد” إلاّ أُنمْوذَج معبّرٌ عنْ جَهْلنَا بهذَا العَالَم، ومَا نَحملُه منْ أفْكارٍ مسْبقةٍ عنهُ. فَريد وبالرّغمِ منْ كونِه طبِيبًا ليسَ غريبًا عن عالم “التحوّل الجنسيِّ” فهوَ جرّاحٌ تجْميليّ، لهُ ارتباطٌ مُباشرٌ بعَوَالمِ الجَسَد، لكنّ واقعَةَ عز الدّين أَفجعَتهُ ودَفعَتهُ إلَى الْتمَاسِ الطّريقِ للتّعرّفِ علَى هذَا العَالَم. لَربّمَا يشكّلُ فَريد “الضّمِير المُعذّب” للْقَارِئ المُثقَل ذهنُه بالأَفكارِ الجَاهزَةِ عن “الأَقليّات الجِنْسيّة”، لكن قِراءَةَ “انْعتَاق الرّغبَة” قدْ تدفعُهُ إلَى مراجَعَة أْحكَامِهِ، قدْ يقودُه فَريد إلَى فضِيلَةِ الشَك وهوَ المعتلُّ ب”اليَقِين”.
“أنا المختص في جِراحة التّجميل، لَم أتساءل يوما وأنا أرمّم أجساما، غير راضية عن نفسها، عن الأرواح التي تتوارى خلفها” صَيحةُ طبيبٍ كانَ في حَاجةٍ إلَى “عاصِفة وجوديّة” ليتحرّر من أوهام النظام الثقافيّ الذي ترعرعَ في كنفهِ، كانَ في حاجة لأن يكتشف أنّ “أباهُ من الجنس الثالث” ليسافرَ إلى كندا، ويتعرّف علَى فَادية وَيكتشفَ قَارّة ظَلّت مَجهولة علَى “جهازه الذهنيِّ”، الذي لم يعتدْ قراءة لغة السّالكينَ في محْراب العبور من الاعتيَاديّ إلَى الغريبِ، والذي ما كان له أن يَبدو غَريباً، لَولاَ عَتاقةُ الجهَاز ذاكَ عيْنه.
مَجازُ السّفَر والترْحَال يَكادُ يُلازمُ الرّوايةَ مِن مُبتدئِهَا إلَى مُنتَهَاهَا. السّفرُ حرية وإقامة في العُبور، هو التِقاءٌ معَ الغَيبِ، حَيثُ يَتَشظّى القدرُ زَخّات مُتناثِرَة فيِ مَمْلكةِ المُمْكن. يُسافرُ عز الدّين ليلتقي مَع نَفْسِه، ويقْدمُ فريدٌ ابنُه علَى السّفرِ للِقاءْ المجهُول، أمّا فادْيَة و”أروندَاتي” و”غسّان” فإنّ المهْجر عِندَهُم خلاصٌ منْ ثقلِ ثقافةٍ ترزحُ تحتِهَا نفوسٌ متطلعةٌ إلى مُعانقةِ الحرية. يترادفُ العُبُور مَع المَجهُول، فَكِلاهُمَا قَفزُ رَاقصِين علَى حَبلِ الحياة، بَلْ لَيْسَ الرّقْصُ والعُبور والمَجهُولُ إلاّ تَسْمِيات أُخر لِلحيَاةِ الجديرةُ بالحَياةِ، ف “أن تستقبل المجهول هو أن تستقبل الحياة” تقول مرشيد في آخر ما خَطّتهُ فِي “انْعتاقُ الرّغبة”.
“المَكتوب مَا منّو هْرُوب” دَرجَ “سوقُ الحكيِ” علَى قوْلِهَا، والحالُ أنّ المَكتُوب هو الهرُوبُ نَفسُهُ. طوبَى للأَقدرينَ علَى الهُروب من أغلالِ الجمُوع ! أنْ تحبّ قدَرَك معناهُ أن تمتلكَ الجرْأَة علَى الهربِ منهُ والتملّصِ من قبضتِهِ، ولاَ يُفْلحُ ذَلكَ إلاّ إنْ صَار الإنسانُ قادرًا أن يكونَ نَفسَه، كعز الدين وفادية وفريد تماما.
“انْعتاقُ الرّغبة” نَصّ نتمرّن فيهِ علَى الحرّية، كقيمة إنسانيّة سَامِية تَخترقُ شُخوصَ الرّوَاية وتَتحدّث بألْسنَتهِم. فَلكُلّ بَطلٍ منْ أبْطَالِها “حِكايَةُ انْعتَاقٍ”، حَرّرتْها مرشيد من شَرنَقَةِ الكتْمَان. لَكنّ أبلَغَهَا هيَ حكاية عز الدّين كمَا ذكرْنَا. “القَدرُ الجنسيّ” يتحوّلُ فضاءً للاختيارِ من خلال اختبارِ مدى قدرتنا أن نَكون مَا نَحن عَليْه، لا مَا تريُد الجُموعُ أنْ نَكونَه. هَكذَا تَصيرُ الهوِيّة استعدادًا للذّات لأَنْ تملكَ إرَادَتهَا الخَاصّة دون تفويتِهَا لِمَن هُو خارجٌ عنْهَا. بهذَا المعْنى ليست الهويّة مَا كنّاهُ، ولا هيَ مَا نحنُ عَليْه، وإنّما هيَ ما نحنُ قادرونَ أنْ نَصيرهُ. فأليْسَ الأمرُ رَمْيًا ب”الحَاضر” فِي مخالِبِ المُستقبَل؟ وألاَ يفضِي هذَا إلَى إعْدامِ الأمَلِ للرّغبةِ؟
فِي الأَمَلِ وَالرّغْبَة..
إشْكالُ الزّمَن مُلازمٌ لِسرْديّات مُرشيد. وفِي: “انِعتاقُ الرّغبةِ” استعادَةٌ فلْسفيةٌ لذاتِ الإشكالِ. بِحرْفَةِ النظّام تُؤشْكلُ فاتحَة “الزّمن” حينَما ترمِي ب”الأمَل” إلَى محَاورَة “الرّغبَة” منْ خلالِ “دَفاتِر عزِيزَة”. بالنِّسْبَة لَهَا (له) فالرّغْبةُ لُغةُ الحَاضرِ، وثَاقٌ يشدّنا إلَى أنْفسِنَا، لَيْسَ الإنْسَانُ إِلاّ حيَوَانًا رَاغِبًا. أَن يَعيشَ الإنْسانُ رَغْبتَهُ معناهُ أن يعيشَ حاضرَهُ. ليست الرّغبةُ والحَالُ عَلى هذهِ الحَال إلاّ الحَاضر، هَكَذَا تَحدّثَت فاتِحة مُرشيد ظافِرةً للرّغبَة من الأمَل. فَإنْ كانَت الرّغبةُ حركَة، وإنْ كانَت “هيَ الحَيَاة..وفِي انْعتَاقِهَا خلاصُنَا”، فمَا الأمَل؟
الأمَلُ عندَ مرشيد، إقَامةٌ في باحةِ الانْتظَارِ “عيشٌ في الغَد”، تَقسُو عَليْه كَثيرًا عندمَا ترى فيهِ حائلاً بيننَا وبيْنَ الحياة، تقولُ “الأملُ ليسَ هوَ الحياة، بلْ علَى العكْس، أحْيانًا يمْنعُنَا منْ أنْ نكون أحيَاء الآن، في انْتظارِ مَا قد لا يحدثُ”، فهلْ حقّا يكونُ الأَملُ انْتظارًا؟ أ هكذَا يكونُ قَدرُ أجملُ ما بقيَ لنَا منْ “علبَة باندورَا”؟
إنّ مَا سَبقَ أنْ قلناهُ حولَ قُدرَة فاتحَة مرْشِيد على استِشْكالِ مواضيعِهَا، يسْري علَى هذا الإِشْكَال الوجُودِي: إشْكَالُ العَلاقَة بيْنَ الرّغبَةِ والأمَلِ. الأمَل ليسَ مجرّدُ انْتِظَار كَسَالى، ليسَ قنوطًا واسْتسلامًا وتحسّرًا، قدْ يكونُ قويّا أيضًا كالرّغبة تمَامًا. في “في حضرة الغياب” ينثرُهَا أمَامَنا درويشٌ فلسطينيٌّ كحبّات كرزٍ “الأَمل هو قوّة الضعيف المُسْتعصية علَى المُقايضَة. وفِي الأمل ما يكْفي من العافية لقطْع المسافة الطّويلَة من اللاّمكان الوَاسع إلَى المكان الضيّقِ”.
لَيسَ الأَمَلُ رَجاءً، وإنمّا هوَ تأهّبٌ لعنَاقِ الممْكنِ، وتطلّعٌ لخلْقِ المَجهُول. إنّ الأمَلَ هوَ غدُ عز الدّين، وحاضرُ عزيزِة، وفِي اشْتبَاكِهِ بالرّغبةِ، يلحقُ تصدّعًا ب”الزمَن التقليدِيّ” الذِي يتوسطُ فيهِ الحَاضِرُ الماضيَ والمسْتقبَلَ، فلا يصيرُ الحاضرُ “آنًا”، بلْ إنّهُ يمْسِي تَرْكيبًا وُجوديًّا للأَنَا فِي آنَاتِهَا الثلاَث (الماضي والحاضر والمستقبل). الحَاضر ووفقَ تحْديدِ بعضِ معَاصرِينَا لهُ “ليلةٌ بلا غد” كَمَا زعَمَ درويش، لأنّ غدهَا آنهَا وحَاضرُهَا وإنْ “مرّ بنَا ومررْنا بِهِ ذات يوْم ولمْ نَنتبه” (محمود درويش، “في حضرة الغياب”).
يظْفرُ الغدُ في النّهَايَة، وتَكتبُ “بياضَاتُ الرّوايَة” ظفرًا لرَغْبةٍ مسكونَةٍ بالأَمَل. كإطلالةِ “شوّافٍ” عَلَى “ورقِ الغد”، يَحكِي فَريدٌ لِقاءَ غَدهِ بفَادْيَة، ويلْتقِي فِي آخرِ المَطَافِ ب”الآتِي”، بالمجْهولِ، بالعَابرِ، أقصد لقَاءَه ب”صدْفَةِ مِيعادٍ” غيْر مُوضّب: لِقَاءَهُ ب”أنَاه” الذِي ضَاعَ منهُ فِي غمْرةِ ذوَبانِهِ فِي “عُلَب الحُشُود”.
“المجهولُ يصرُّ علَى إثباتِ سُلطَتِهِ من جديد”، والأمَلُ كمَا الرّغبةُ بطَاقةُ بريدٍ قدْ تبْدو وَدِيعةً سَاكِنَةً، لكنّهَا قدْ تحرّكُ -باستقْدامهَا الغد إلَى حضْرَتِهَا- “بَاحةَ الانْتظَارِ” نفسِهَا.
هسبريس، 12 ماي 2019