إبراهيم الكراوي
يتأثث المشهد الشعري المغربي الجديد بديوان جديد للروائية والشاعرة فاتحة مرشيد، تحت عنوان ” انزع عني الخطى” الصادر عن دار توبقال في الدار البيضاء. وهي مجموعة تتكون من أربعة نصوص، توحدها تشكلات البنية الشعرية التي تشتغل على شعرية الإنسياب والعشق.
إن النص الشعري عند فاتحة مرشيد يتشكل من الناحية الإجناسية على ما يسمى الانسياب الشعري، وهو ظاهرة تمنح لنصوص مرشيد إيقاع ” الخطى الشعرية”، وبالتالي فالانسياب لا يتمثل كغاية عند الشاعرة، بل وسيلة تعكس وتحفر في الذات وتؤسس لشعرية العشق ولعلاقتها بالأشياء والعالم تقول الشاعرة في هذا الإطار:
تنبثق الكلمات
من المدى الأزرق
تتكور، تتبلور
تنبسط زبدا
ينساب فينا
قطرات من حنين
فإذا كان الخطاب عند اللسانيين يتأسس على متواليات الجمل، والجملة مجموعة من الكلمات، فإنه في الخطاب الشعري ”يتبلور” من خلال ”الكلمات التي تبثق من المدى الأزرق قطرات”، وهذا سوف يحيلنا إلى تشاكل الماء، كما سيتبين من خلال التحليل باعتبار حضوره داخل المجموعة، والمتماهي مع فعل الكتابة والوجود.
ويضاف إلى هاجس بلورة الكلمات في نسق إيقاعي، يتمثل في تشكيل الخطاب الشعري وبنية الإنسياب الشعري، من خلال الحرف ”المدنس لبياض الورقة” . وهذا الانسياب الشعري للكلمات هو ما يمنح للذات الشاعرة الاتصال بالأصل المعشوق، الذي جاء هنا متماهيا مع الماء أيضا، ودرجة التماهي هنا بين العاشق والمعشوق والكتابة إلى درجة أن الشاعرة تمحي وجوديا داخل ماء العشق والكتابة ويصبح الثلاثي العشق والمعشوق والكتابة ذاتا واحدة، تقول الشاعرة في القصيدة التي تستهل بها المجموعة وهي تحت عنوان” إنزع عني الخطى”
لن أكون
سمكة حمراء
تلتف حول نفسها
في قليل مائك
لي قرابة
بالأزرق
وتصل درجة التماهي والمكاشفة ذروتها، حتى أنها لتكاد تقترب من الاتصال الصوفي بين العاشق والمعشوق
كلما انشقت أصداف الأنوثة
ولا أهتم
من أي الجنسين أنا.
وفي مقطع آخر من قصيدة «هلوسات الماء» يتحقق هذا الاتصال الروحي والجسدي:
نتصل عميقا
وفي المرآة
يرتدي وجهي
ملامح وجهك
ومن جهة أخرى فإن الانسياب الشعري يتدفق ”قطرات من حنين”، كما يقطر الماء من المدى الأزرق وهو كناية عن البحر، باعتبار أنه أفق تستمد منه الكتابة روحها، فهو الماء منبع الكلمات والوجود في ظل ”خطى المكابدة” والقلق الذي تعيشه الذات الشاعرة خارج رحم (الماء المعشوق الكتابة) وهو ما يؤشر إليه عنوان المجموعة. فالخطى كما تتبين خلال المقاطع السابقة، استعارة للمعاناة التي تعيشها الذات العاشقة، والتعب والإرهاق في سعيها للاتصال بالذات المعشوقة والكتابة في مختلف تجلياتها. لذا فبنية العنوان تتشاكل دلاليا وصوتيا مع العمق الشعري الناظم لنصوص المجموعة.
فالذات الشاعرة تلجأ إلى أن تتخلص من الإرهاق النفسي والقلق الوجودي لآثار الخطو، من خلال الارتماء في أحضان أفق أكثر شساعة، وهو الكتابة كتجربة عشق وممارسة ثقافية ووجودية لامحدودة. فالخطو هنا رداء للذات الشاعرة التي تمارس الكتابة الشعرية بكل طقوسها، ونزع هذا الرداء يعني البوح بما يجول في أعماق الذات الشاعرة وكشف هواجسها المؤلمة.
إن القصيدة بدورها حين ”تنزع الخطى ” تتعرى كاشفة عن شغف وأعماق الذات وهواجس العشق، الذي يتحول إلى ذاكرة وحنين ترفض الذات أن تستسلم لسيفه تقول الشاعرة في قصيدة ”لن أموت مرتين»
ولأننا ضحايا الحنين
تعمد على قتلي
كلما أشهرت سيفها.
وفي موضع آخر من المجموعة تستعمل الخطى كناية عن القلب العاشق، وهو في طريقه إلى الاتصال بالمعشوق، فقد شبهت الشاعرة الخطى بالقلب، فحذفت القلب وأبقت على أحد لوازمه وهو الخفق للدلالة على شغف الذات لتتحول في موضع آخر إلى ”ترنيمة” تؤسس للكتابة الشعرية.
إن الانسياب الشعري في هذه المجموعة ساهم في تشكيل جماليات النص الشعري وأبعاده الدالة داخل الخطاب، وهو ما يتجلى من خلال تشاكل بالإيقاع (ترنيمة الإيقاع، يتيه عن إيقاعك، تعزف الأفواه من دمي، ترتيل الكواكب، أتدفق موسيقى، أوتار الجرس) وهو تشاكل ينسجم ويتقاطع مع تشاكل الماء، ليؤسس بذلك شعرية الانسياب داخل هذه المجموعة.
ففي أحد المقاطع تحضر استعارة الأجراس، باعتبارها أحد تجليات هذا الانسياب، وغوصا في مياهه أي في عمق الكتابة الشعرية تقول الشاعرة في هذا السياق:
مفرغة من عظامي
معبأة بأجراس نداءاتك
أسبح في اتجاه الحلم
برشاقة كائن مائي
لا يخشى الغرق
وفضلا عن تشاكل الإيقاع الذي تشكل من خلال حضور الانسياب والبوح والحفر في هواجس الذات وآلامها، نجد تشاكل الماء الذي يتجسد في هذا النص متماهيا وجوديا مع الإبداع والكتابة الشعرية من جهة، ومع مكونات شعرية الانسياب الأخرى (كائن مائي، قليل مائك، قرابة الأزرق، تجاعيد الماء، كنهر يبحث عن منبع، هلوسات الماء، ينساب قطرات…) فقطرات وإيقاع الماء يمنح الذات الشاعرة وسيلة التعبير عن هواجس وأعماق الذات، كما اتضح من خلال المقاطع السابقة، مما يعكس صدق التجربة. إن الماء هنا يرتبط بالعمق، خصوصا أن تشاكل الماء يرتبط بفضاء البحر، عمق الذات العاشقة وهي تعيش قلق الاتصال والانفصال. وبالتالي حضور الانسياب كتجل شعري يؤسس لجمالية النص الشعري في هذه المجموعة.
إن أحد أبرز مظاهر شعرية الانسياب في هذه المجموعة هو غياب علامات الترقيم، باستثناء العلامات التي تشتغل كمؤشرات دالة داخل بنية الجملة، والفضاء الطباعي الموسوم بالبياض، والكلمات التي تقطر على الورقة، ما هي إلا رفض لهذا البياض الموت، الانفصال عن الذات المعشوقة. وقد شبهت الشاعرة الفراق بالمقصلة في تصوير بديع لمشهد وضعها على الرأس، مما يدل على أن الانسياب الإيقاعي ما هو إلا تعبير عن عمق الذات ومأساتها. إن نصوص المجموعة تستمد جماليتها من انفتاحها على تقنيات السرد، أو ما يمكن أن نسميه السرد الشعري، كما هو الأمر في نص ”عطلة الحب”.
فالشاعرة ترصد حدث لقاء وولادة فعل العشق، ففي المقطع التالي نجد البنية النحوية للجملة، (تقديم الجار والمجرور على الفعل والفاعل) تعكس لحظة قلق وحنين في ظل تعطل الحب وغياب دفئه. وقد وظفت الكاتبة فضلا عن الزمن في المقطع الأول، مجموعة من الأفعال التي تدل على سرد واقعة شعرية في زمان ومكان محددين كما يتضح من خلال المقاطع التالية:
بعطلة الحب التقينا
الشمس حارقة…/ ومرت العلة/ معطلة الإحساس/ لا دفء فيها
كما تنفتح الشاعرة على تقنيات أخرى كتقنيات الشذرة الشعرية التي تحضر كأحد تجليات جماليات الانسياب الشعري، وتحاول الشاعرة في هذه المجموعة القبض على هواجس وأعماق الذات. فالشاعرة تنحت لغة شعرية تستلهم أبعادها من شعرية الماء وما يرتبط به من انسيابات تميز بنية اللغة الشعرية.
جريدة القدس العربي، السبت 27 مارس 2015
http://www.alquds.co.uk/?p=317482