الوظيفة الجمالية في القصيدة الشعرية :
من التمثل الأنثروبولوجي لفن الخط إلى التمثل الجمالي للشعر
إبراهيم الكراوي
يمثل ديوان ”لا حزن لي ” للشاعرة والروائية فاتحة مرشيد، الصادر مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب، تجربة شكلت إضافة نوعية للشعرية العربية الحديثة؛ من حيث تقاطعات جماليات الحرف العربي، و الأفق الشعري انطلاقا من تمثل الذات. وهذا ما نلاحظه من خلال دفتي الكتاب التي تستثمر جمالية الفضاء الطباعي، وأبعاده، لتتحول القصيدة إلى لوحة تشكيلية تعيد بناء و توزيع أنساق العلامات.
يُستهل العمل الشعري بلوحة شعرية تمثل فن الخط العربي، كما يتجسد من خلال إعادة كتابة الازمة الشعرية ”أيتها النفس اللامطمئنة ”. فتتوزع اللوحة بين التمثل الأنثروبولوجي، كما يظهر من خلال التناص الضمني مع الآية القرآنية ” يا أيتها النفس المطمئنة ”، والأفق الجمالي الذي يشتغل على القصيدة بوصفها لوحة تشكيلية، تتمثل جماليات و أنثروبولوجيا الخط العربي .ولذا، تمثل العلامة ” النفس” الرحم النصي المُولد لأنساق ومتخيل العلامات.
هكذا يحفر الشاعر في متخيل أنثروبولوجي كما يتجلى من خلال روحانية كل من فني الخط و الشعر، وتقاسمهما مجموعة من المقومات . فكلاهما يحاول أن يتمثل المقوم الجمالي ثقافيا، مما يجعلنا ننتقل من التمثل الجمالي لعمارة لوحة الخط إلى التمثل الدلالي للخطاب الشعري، بوصفه مقوما جماليا ثقافيا وروحانيا، يحفر في الذات، ويستهدف اكتشاف العالم وسبر أغوار المجهول .
يشكل المقطع الشعري الذي أعيد إنتاجه جماليا انطلاقا من فن الخط؛ لغة ثانية مضاعفة للمعنى ، تحاور لغة الذات و تتلاقح معها في سبيل إنتاج، بنية اللغة الشعرية. فالمقطع الشعري في هذا المستوى كينونة شعرية، تحيل على الوجود عبر وساطة متخيل العلامة ”النفس ”. ومن ثم، نتحول من الكوجيتو الديكارتي إلى الكوجيتو الشعري. ف أنا أشكل اللغة و أعيد إنتاج وتوزيع معانيها ، إذن أنا موجود. واللغة الشعرية بما هي فعل جمالي وروحاني، تتمثل بوصفها طقسا وجوديا وتمثلا أنثروبولوجيا، تستعيد الحياة (استبدلت جلدا بأملس منه / شغفك بالحياة لا ينضب) (ص: 50.)، وتحاول محو الموت، و تتلبس بلباس الوجود الإنساني، وطقوسه وشعائره. وبذلك تنصهر لغة الشعر باللغة البصرية وتتوحدان في بناء الدوال. وهو ما يمثله الفضاء الأيقوني للغلاف بحيث تنتشر العلامات، وكأنها تعيد بذور الحياة إلى الفضاء . فالحروف تتحرر خارجة من فضاء يحيل على الموت كما يتجلى من نافذة القبو المظلم. و ليس هناك حدود أو إطار يسيج الذات التي تشكل اللغة، و تستعيد الحياة، مما يجعلها تستعيد كينونتها الإنسانية.
إن القصيدة الشعرية سؤال وجودي. ومن ثم، يحاول الشاعر اكتشاف لا حدود الذات انطلاقا من المسار التصويري للقصيدة، وبلاغة الحرف وتشكيلاته الهندسية:
أيتها النفس اللا مطمئنة
يا وثبتي خارج ذاتي
أصحو أنت أم صداع؟
أم كشف أم سؤال؟
(ص : 5)
تنتقل الذات من الداخل إلى الخارج، من أجل البحث عن أجوبة لأسئلة الوجود و الكينونة. فتتوسل بالتمثل الأيقوني للحرف باعتباره يتجاوز البعد الأحادي للمعنى، ويمنح حياة تتحرر من الحدود المغلقة انطلاقا من رمزية الموت . وهذا ما يجسده عمارة المقطع الشعري لفن الخط، بين الدائرة التي تتمثل كينونة الذات الشاعرة، و الألف الحرف المهيمن، يمثل أصل الحياة و النفس معا ، و مصدرها. فهو يحاول اختراق هذه الدائرة. بالانتقال من الداخل إلى الخارج، و من الواقع إلى المتخيل، ومن الموت إلى الحياة.
و مما يكشف وضع الذات، وهيمنتها على صعيد المعجم بوصفها بؤرة تدفق الشعري، هو موقع هندسة ”النفس” التي تحيل على تشاكل الذات نفسها ( النفس، تكرار الضمير المتصل و أداة النداء، أيتها، ذاتي، ضمير المخاطب ، الآخر هو انا؟، أرقى، لا تنتظري، اعبري ،تريثي، ترجلي، لا حزن لي …). فضلا عن كلمات أخرى جاءت في نفس الموقع داخل الدائرة (يشفيك، حضن، اعبري الليل على رؤوس الحروف، الجسد …) :
هكذا هي الحياة
عودة دائرية
إلى ما هجرناه
شوق لحبل سرة
( ص: 71)
يشتغل النص الشعري على تمثل الوظيفة الجمالية بين عمارة الشعري، و فن الخط العربي . فالشكل الهندسي الفني للخط يحاكي و يتمثل القصيدة في أبعادها المختلفة. إنه لا ينفصل عن شعرية ذات الشاعر باعتبارها بؤرة القصيدة.
إن الذات /النفس بمثابة النواة التي تولد تأملات وجودية، وتحاول الارتقاء بالروح في معراج صوفي ينسج علاقتها بالكينونة الشعرية، و الوجود. لذا، لا حدود للوحة الشعرية ولأبعاد الخط من حيث الإيقاع و التناظر و التطابق كما نستشف من خلال الفضاء الطباعي للديوان.
ولعل إعادة كتابة المقاطع الشعرية على الصفحة المقابلة، وفق هندسة معمارية فن الخط العربي لا يتمثل فقط بوصفه عملية تزيينيه، بل يتجاوزه إلى الاشتغال على تضعيف المعنى، و الحفر في الامتدادات الثقافية و الجمالية، و النفسية . ومن ثم، ينكشف تشاكل الجمال والشعر. فاستعادة الكتابة الشعرية وفق هندسة تشكيلية استعادة للحياة عبر وساطة التمثلات الجمالية. والديوان الشعري يفتتح ويختتم كما سبقت الاشارة بلوحة تمثل جمالية الخط كاشفة بعده الشعري.
وإذا كانت اللوحة خطاب البداية تضعنا داخل المنغلق، كاشفة الدائرة وداخلها بؤرة النص ”النفس ” أي الذات المحاصرة بقلق السؤال وهاجس الموت، فإن لوحة تشكيل هندسة الحرف يضعنا ضمن المنفتح من خلال هاجس العودة إلى أصل الحياة، وهو اللغة كما يتجلى من خلال هيمنة الألف وتمتلاثه الجمالية، وهو يخترق الأبعاد الهندسية، و حرف النون الذي يشتغل على الوظيفتين الجمالية و الشعرية من خلال انفتاح النون وخلق إيقاع وتناظر صوتي ودلالي . فيتجسد أصل ثان للحياة، وهو لغة الأمل بعد أن تمردت النون على كينونتها وأرست مقوما سياقيا يتجلى في نفي الموت وإرساء الحياة (وما كل نفس ذائقة الموت).
هكذا تشتغل القصيدة من خلال محور الجمال، لتنتج مجموعة من الثنائيات التي تعكس التضاد و التناقض، باعتبارهما الحياة ذاتها .فلا وجود لحياة بدونهما، وفي نفس الآن تنقلنا من المنفتح إلى المنغلق، ومن اليأس إلى الأمل، و من الحياة إلى الموت كما نستشف من خلال خطاب اللوحة الشعرية:
الموت الحياة
المغلق، اليأس المنفتح، الأمل
اللاحياة اللاموت
إن اللغة باعتبارها كينونة روحانية، وطقسا يضرب في جذور الذات، و ينقلها إلى عالم الحياة انطلاقا من ممارسة جمالية وتمثل أنثروبولوجي لها.
تنتهي القصيدة المُشكِّلة للديوان بتكرار مقطع ”لا حزن لي الآن ” الذي يحتوى مقومات سياقية صوتية و دلالية ومعجمية، تكشف المدلول الشعري المرتبط، برغبة الذات في اكتشاف وإدراك جوهر الكينونة والوجود، من خلال العلاقة النسقية بين العنوان ”لا حزن لي ” و خطاب النهاية وتقنية التدوير الشعري :
أرى خلف الأفق ضياء
لا حزن لي (ص:76)
فتشاكل بعض الحروف والأصوات (النون، الياء، الألف، الواو، الياء) يؤسس بنية التوتر و الانسجام كاشفا التعالقات بين معجم الذات بؤرة الابداع (أيتها النفس) وسماء المعنى، و انزياحاته التي تتمثل بلاغة الموت بوصفه حياة متجددة في القصيدة :
أيتها النفس اللامطمئنة
يا من تنفخ بالفم المغلق
في متاهات البياض
) ص: 25)
هكذا يندمج البصري بالمكتوب، و الثقافي بالطبيعي. فيتحول النص الشعري إلى بؤرة تتلاقح فيها و تنصهر كل هذه العلامات. فإذا كان تشكل الحرف يستلهم مقوماته من الطبيعة كالشجرة و مكوناته فإن الشعر امتداد لهذا الأفق الذي يتشرب الثقافي و الروحاني و الجمالي.