0%
Still working...

النضج يقلص مساحة “الحياء” ويجعلك ترسم المسافة بينك وبين الأشياء

النضج يقلص مساحة الحياءويجعلك ترسم المسافة بينك وبين الأشياء

حاورها: سعيد منتسب

النضج يقلص مساحة “الحياء” ويجعلك ترسم المسافة بينك وبين الأشياء

عن منشورات دار الثقافة، صدر، مؤخرا للشاعرة والطبيبة فاتحة مرشيد، ديوان شعر بعنوان “إيماءات” وهو الديوان الذي قدم له الشاعر الزميل حسن نجمي بقوله: “إنه دفتر شعري مثقل بالرعشات، بالأنفاس الدافئة، بالحدوس.

وفيه تكتب عن الحب، عن غبار الذاكرة، عن الحضور والغياب، عن الداخل والخارج، عن الذات، وهي تجابه العالم، عزلاء متوحدة مهتمة بتحقق هوية فردية أساساً”. فيما يلي هذا الحوار معها..

س: أولاً نتمنى أن تحدثينا عن علاقتك الغامضة بالشعر. هل هو ممارسة يومية؟ هل هو استراحة حرب عابرة؟ هل هو وجود كامل، أم هو مجرد لغة فاضت من عين طفلة تسكنك؟ ثم ما هي العلاقة المفترضة بين طب الأطفال وكتابة الشعر؟

ج: علاقتي بالشعر ترجع إلى بئر الطفولة، مرورا بمرحلة المراهقة التي كنت أكتب فيها بغزارة، ثم أتت المرحلة المتزامنة مع دراسة الطب التي تتطلب نوعا من التفرغ والانصياع للتحصيل. وبعدما أنهيت دراستي، خاصة مرحلة الاختصاص، أعلنت رجوعي وانتمائي إلى بحيرات الشعر المتماوجة في كل حواسي. لم يكن هناك انقطاع حقيقي بيني وبين الشعر، فبيننا نسيج كامل من السرية، لحظات خاطفة وحادة نؤسسها معا، ونكتبها معا، ونشعلها معا. فحتى فكرة النشر لم تكن تلح علي، توجهت إلى نفسي في كل ما أكتب. لكن، فكرة “العبور” إلى الآخرين نضجت عندي تلقائيا منذ سنة تقريبا.

س: هل معنى ذلك، أن ما تسمينه “الخروج إلى الآخرين” انتظر كل هذه السنوات حتى يكتمل النضج، أم أن الذات الشاعرة، المتوقعة خلف حواجز عاطفية سميكة، والتي وجدت عسرا للإفصاح عن انكساراتها الداخلية، لم تستطع كبح كل هذا الصخب المشتعل ففاضت شعرا حنينيا متألما راغبا متحديا؟… إلخ.

ج: نعم هذه تفسيرات أحاول أن أقدمها لنفسي. غير أنني أعتبر أن الخروج إلى الآخرين هو نوع من الانكشاف والعري. ولم أكن من قبل قد وصلت إلى النضج الكافي لأتحدى “فكرة الانكشاف” أمام الآخرين. وأنا أظن أن النضج يمنحك فرشاة ترسم بها المسافة اللازمة بينك وبين الخجل والخوف من عيون الآخرين المتسلقة و ألسنتهم المندلقة.

س: هل معنى ذلك أنك استطعت أن تتحرري من سلطة الآخر، وأنك تكتبين شعرا منتميا إلى “أدب الاعتراف”؟

ج: ثقافتنا ليست ثقافة اعتراف أو بوح. المعاناة مسألة شخصية، هذا ما نتعلم ويترسب عميقا في عقولنا، غير أن النضج يعلمك أن المعاناة مسالة إنسانية، وأن الناس جميعهم يعانون من نفس الآلام، ويكابدون نفس المتاعب. وهذا ما جعلني أخرج إلى الآخرين على متن «إيماءات”.

س: ماذا عن علاقتك بالأطفال؟ ما هو تأثيرهم على عالمك الشعري؟

ج: كي يبدع الإنسان من اللازم أن يغوص عميقا في طفولته، في دهشته الأولى، في حواسه البدائية، في عمائه الأصلي، ليصوغ “فاكهة الإبداع العجيبة ” وأظن أن الشعر هو الفن التعبيري الأقرب إلى الطفولة، فهما معا مليئان بالانفعالات والتلقائية والحزن والفرح. والشاعر طفل، بل إن كل المبدعين يقتاتون من جسم الطفولة الأرحب.

س: هل لهذا السبب اخترت مهنة “طب الأطفال ” أتجدين في نفسك بحرا بلا شطآن من الطفولة وأفراحها وأحزانها وعوالقها وذكرياتها وآلامها؟

ج: اختياري لمهنة ” طب الأطفال” لم يكن عفويا. فأنا أعتقد أن ألم الأطفال هو ألم لا يمكننا أن نقف أمامه دون أن نصنع شيئا. فأنا اخترت هذا الاختصاص مدفوعة بتجربتي التي عشتها و أنا طفلة. طفولتي لم تكن سهلة تماما ونحن نقول في الطب النفسي أن الطبيب لا يختار الاختصاص بعفوية، بل لأنه يعكس شخصيته، أو جزءا من “الحكاية” التي انفلق منها. فأنا وجدت انشغالي متاخما لعالم الطفولة الذي يلتقي مع الشعر.

س: في شعرك ألم لا يضاهى، خمرة الألم/لذته تسكر كل الحروف والتعابير.

ج: الألم يجعلنا نتعرف على أنفسنا أكثر، في حين أن االسعادة تدفعك إلى الاستغناء عن كل الأشياء… ثم إن سألتك لم أفكر فيها من قبل…

س: الألم يصهر الذات ويجعلها شفيفة وواضحة..

ج: نعم، الألم يجعلنا نلامس ألم الآخرين ومعاناتهم ونزيفهم الداخلي العميق. وربما ما يعمق إحساس الألم عندي أن الناس الذين يقصدون عيادتي هم ناس يتألمون.

س: أنت الآن تتكلمين عن ألم غيري، لكن دعينا نتأمل في الألم الذاتي، في هذا الإرث الشخصي، هل الألم هو زاد تجربتك الشعرية؟

ج: بدأت الكتابة وأنا صغيرة جدا. ربما كان هناك ألم، لكن الألم، الآن، ليس موجودا لوحده في كتاباتي. تستطيع أن تعثر فيها على ألم الشيخوخة..إلخ.

س: لماذا إيماءات…

ج: ما أكتبه ليس بوحا صريحا. فكتابتي، منذ البدايات البعيدة، إيماءات مؤثثة بالصمت، كنت أخبئها وأحرص أن تظل بمنأى عن عيون المتلصصين. وعموما فإن الكتابة النسائية العربية تخلو من البوح، وحتى الشاعرات القديمات نادرا ما نجدهن يكتبن “شعر غزل” يكتبن فقط “شعر المراثي” ويتحدثن عن الحزن كما لو أن حدودا مرسومة يتعين عليهن ألا يتخطينها.

س: لكن هناك كاتبات عربيات ومغربيات حاولن الخروج عن دائرة “الأخلاق التقليدية” التي تقمع البوح، خصوصا في مجال القصة والرواية.

ج: ربما في القصة والرواية، ولكنهن في الشعر غير موجودات. “سلطة الحياء” تمنعهن..

س: تقصدين أن هيمنة السلطة الأخلاقية التقليدية هي المانع.

ج: نعم خصوصا سلطة الأب التي تجسد سلطة المجتمع … فأنا أومئ ولا أتكلم، أعبر و لا أبوح. ولذلك فقد تلاحظ أن في شعري ترددا، فيه حياء، فيه صمتا، فيه اشتغالا على رجع الصدى، بل إن “الإهداء” نفسه يشير إلى هذا الخروج “المومئ” من زمن الصمت…

س: الإهداء موجه إلى والدك غير أن هذا الوالد يغيب لسبب نجهله عبر الديوان بكامله..

ج: لا أعرف لماذا هذا الغياب. فلوالدي مساحة واسعة في قلبي. هو من حبب إلي اللغة العربية. [كان أستاذا للغة العربية] التي أوصلتني إلى الشعر. وأنا لا أستطيع أن أكتب عنه شيئا لأنه أكبر من كل الكلام، وعلاقتي به أوسع من أن تحتويها كل اللغات.

فالأم التي لم أعش معها حاضرة الديوان بينما يغيب هو، لكن أحس أنه حاضر في كل نأمه، في كل حرف في كل كلمة، في كل جملة، في كل ما يختمر في النفس من تعبيرات.

سألت /أسأل نفسي:”كيف سيستقبل ما نشرته؟ هل سيعجبه الديوان؟ هل ستعجبه عربيتي؟ أتساءل بنوع من الرهبة التي مازالت مستمرة معي إلى الآن، أو هو نوع من الأوديبية التي تجعلني أعتبر والدي مثلا أعلى النزوع إليه يسري في دمي بدون مقاومة. والدي كان حاضرا في جميع مسارات حياتي، في كل اختياراتي، ولذلك فهو حاضر في روح الديوان، أو هو روحه…

س: “إيماءات” زخة مطر عابرة، انفراج عاطفي في زمن ما، في لحظة ما.. هو أيضا فقدان صعب، فقدان “الآخر” الذي كان ولم يعد، ذلك الفقدان الذي أثخن الذات بالانكسارات أو بالأحلام المستحيلة. أثر “الآخر” الذي تشتغل عليه الممحاة بدون أن تتمكن من محوه. “الآخر الشبح” الذي يطهر ثم يختفي. “الآخر” الذي تلاحقه النداءات من كل جانب بدون أن يستجيب. ما رأيك في هذا الكلام؟

ج: الشعر تلميح، استعارات واسعة إذا أطل عليها القارئ فإنه يؤولها انطلاقا من معرفته ومرجعياته النفسية والاجتماعية والثقافية …

س: جل قصائدك هي أشبه باعترافات تتغيأ ترميم علاقات ممزقة ومستحيلة، مع “الآخر”، مع الأم، مع نداءات الجسد. ما رأيك؟

ج: صحيح علاقتي بأمي لم تكن علاقة عادية، لأنني لم أعش معها بسبب انفصالها عن والدي وأنا في سن الخامسة. فغيابها، رغم وجودها، له وقع أكبر مما لو كان غيابا نهائيا، عشت هذا الغياب كهجر وذقت بسببه طعم الألم. لكنني في الوقت الذي أصبحت أما عرفت الكثير من الأشياء ثم حاولت أن أتقرب منها أكثر لأرمم ذاتي. غير أن “الموت” ظهر ليعبث بهذا الاقتراب، غمرني إحباط حقيقي فصغت لها “رسالة اعتذار” عن كل سوء الفهم الذي نبت بيننا … فيها، ربما، إحساس بذنب ما…

س: و ماذا عن علاقتك بالرجل، هذا “الشيح المومأ إليه” في غير ما موضع بالديوان؟..

ج: إن العلاقات الإنسانية معقدة جدا، وأنا عبرت عن الفراق بـ”الفطام”. وعندما تسألني الأمهات عن الطريقة الأنجع للفطام: هل تتم بالتدرج أم دفعة واحدة؟ أقول بأننا نتعرض في حياتنا لأنواع متعددة من الفطام، والإنسان إذا فطم لا يموت حقيقة، ولكنه لن يسترجع كيانه بالتمام.

س: لماذا هذا الحضور الباذخ للجسد في الديوان؟

ج: إنها لمسة الأنوثة وعنفوانها…

س: الأنوثة لا يكتبها النساء فقط، ففعل الكتابة، في العمق، فعل أنثوي، وكل ما لا يؤنث لا يعول عليه كما يقول المتصوفة…

ج: نعم، الجسد لا يمكن أن نفصله عن الروح. وأنا قلت، في البداية، إن النضج يقلص مساحة “الحياء” ويجعلك ترسم المسافة بينك وبين الأشياء…

س: الذات الشاعرة تحس أنها معلقة في غربة قاتلة كما لو كانت إلهة صغيرة تنصت إلى آلام الآخرين و لا أحد ينصت إلى آلامها.

ج: أنت تشير إلى أبيات من قصيدة الوزرة البيضاء” التي سميتها، في البداية، “معاناة طبيبة”. فالناس يزورون الأطباء ليخففوا عنهم، ولذلك فهم مجبرون على الإنصات إليهم كيفما كانت حالتهم النفسية. أنا كتبت “الوزرة البيضاء” مباشرة بعد وفاة والدتي، لم تكن لدي، أنذاك، القدرة على الاستماع إلى الآخرين، ولكن كان علي، بحكم عملي، أن أبذل مجهودا استثنائيا.

لا أخفي أنّ هناك إحساساً بالعزلة، وهذا إحساس الشعراء. الشاعر، دائماً، يشعر أنه مختلف.

س: الذات الشاعرة مليئة بدفق من الأحاسيس الجميلة تبحث لها عن مجرى، لكن المجرى، دائما، يقيم في الماضي، وليس في الحاضر. هناك توتر عارم، هناك رغبة تسعى نحو إشباع مستحيل….

ج: الإنسان و هو يسافر في الزمن يحمل ذاكرته..(عند الرحيل/ أقصيت من حقيبتي/ ردائي القديم/ علق الغبار بذاكرتي). أما التوتر فهو ناتج عن “الثغرة” الذي تركه غياب الأم، هذا هو الجرح الذي يملؤني…

“الاتحاد الاشتراكي” جريدة ،

28 يونيو 2002 العدد 6893