0%
Still working...

النثر العربي من الإبداع إلى الإمتاع 

برهان الخطيب: 

ولادة نجوم جديدة 

مقروء ومرئي، متسيّب هنا، متشدد هناك، ظاهره قد يختلف عن باطنه، كيوم مشمس غائم، أشرقت أسماء كتّاب، كاتبات خاصة، في سماء العربية منذ احتلال العراق، بتقديم العابر اليومي باعتباره مخلدا وأدبا، ذلك ممكن طبعا، عند التقاط الشعر والتأريخ والشكل في لحظة هاربة، وعابث ساقط، عند ركوب اللحظة لتقليد شعر، لاصطناع نص، نقلا عن نوافل عابرة. 

إذا كان تجدد الأدب العربي في الشعر تعبيرا عن نضج الحالة العربية حينه، من داخلها قبل كل شيء، و بتلقح من جديد، فأنه في النثر، مؤخرا، قصة، رواية، مسلسلات فضائية ممتدة أحيانا من شاشات إلى مجالس نيابية وأعلى وبالعكس، يعبّر وبوضوح في كثرة منه عما وصل ويصل مع غزو العراق، مفاهيم مستحدثة، مصطنعة، ذات مقاسات فضفاضة أحيانا بل غالبا، للجميع، من ثورية إلى محافظة حسب الطلب، لتحرير أنماط عيش وتفكير، إلى أفضل أو أسوأ هذا موضوع آخر، البيّن منه حتى الآن توسيع حرية، تغيير ملابس خارجية، إلى تجريد من داخلية لو صح مزاح، لو كان ذلك في غرف نوم مستورة، مكيفة، قلنا لا بأس ربما، مّن لا يريد الترف والنعمة، لكن أن يحدث ذلك في زنزانات أبو غريب وغيرها وبيوت بائسة وشوارع ملوثة بأشعة ومؤسسات تعرض نفسها محترمة، وهي تمارس سرقة عقل المُلقي والمتلقي، من نمط خلي نبوكه مثلا، فذلك يعني التجريد أيضا من ضروري كالماء والطعام أسمه الكبرياء والشرف، ما يبقى لإنسان عند الرفض قبل ضياع الوطن أو ارتهانه. هكذا لا يمكن القول إزاء ذلك غير قبّح النقد هكذا تجديد وممارسة، انتقالا إلى تقبيح النقد نفسه حين يسكت أو يداهن، انتقالا لفعل. 

معلوم ليس كل ومضات فينوس ضائعة في ظهيرة مشرقة، مراقب سماء الإبداع قد يلاحظ ولادة نجوم جديدة، والقديمة تواصل اللمعان، لميسلون هادي العراقية صدر أكثر من كتاب في الأعوام الأخيرة، (العالم ناقصا واحد) رواية قصيرة لها، ترنيمة على فقدان ابن، ما أكثر الأبناء المفقودين في العراق، قبل وبعد الغزو أكثر، تثير الشجن نعم، ارتفاعا على حزن من حياة يومية، بتفاصيل باهظة للروح، تكاد تحصر الموضوع عند عدم الارتقاء على الحزن في دائرة أدب طبيعي، لا يعبأ كثيرا بغربلة التفاصيل، لبناء صرح تفاؤل منها، ولو استحال هباء منثورا، ذلك من مهام الأدب المبصر. 

لميسلون مقدرة على اصطياد خلجات النفس والتعبير عنها بحرفية، تتناول الموضوع من عدة زوايا، بأسلوب مرن جذاب، تضرب على وتر البلوى بإيقاع مؤثر، يجعل كتابها مرثية ذات حزن مطهر من يأس مقيم. بروايتها الصادرة قبل عامين (نبوءة فرعون) تمضي على درب إبداعها أبعد، الطفل يحيى (تكتبه يحيا، مثل زكريا) وأهله، المولود في حصار وعسف حتى ضياعه في صباه بقذائف الغزو، وثيقة أدبية عن أعوام العراق العجاف الأخيرة، تصوغها يد امرأة حاذقة حانية في التقاط التفاصيل، ويجعلها سردها برباطة جأش تحسد عليها متمكنة في تشكيلها فنيا، مسيطرة على عواطف قد تغرق في لجة وأخرى كلمات حزن. إنها ترمم عالمها بنظرة شمولية تقربها إلى كبار الرواة المعاصرين، ولو أن توليفة الأب والابن الراقية في حد ذاتها تبدو مقحمة في العمل، قادمة من عمل ثان. 

لميسلون المجدة رواية أخرى مؤخرا لم أصل إليها. أعتقد يمكن تناولها من رف وقراءتها اعتمادا على رأي عام تكوّن عن الكاتبة. القراءة تذوق شخصي. وربما جنحت إلى خطأ في أحكام قاسية، حينه الاعتذار واجب، كما لمحيي الأشيقر لتصنيف مجموعته رواية، ولو نقلا عن كلام جمعنا. 

فاتحة مرشيد المغربية قدمت هذا العام (لحظات لا غير) رواية أكثر من مقبولة، النص سليم لغويا إلاّ هنات قليلة شائعة من قبيل الخلط بين نفد ونفذ. في انطباع أول عنها ثمة أفكار جميلة تطرحها الكاتبة، قد يمكن دحضها في نقاش، عالم شخصية الرواية (الطبيبة) يكمله نقيضها (المريض). طبعا ليس لناقد الحق في رفض أفكار كاتب تماما، كلُ يبني عالمه بمنطق كما يشاء، ذلك في واقع، أما في رواية، في أدب، وهو مسئولية، ثمة حساب. في ص 96 تقول مثلا: أدركت أن المهم ليس ما تقوم به، ولكن مع مَن تقوم به. انتهى الاقتباس. يظهر لنا الفعل ذاته هنا أو عموما كأنه من غير قيمة، هذا غير مقبول اجتماعيا، وهي فكرة من أفكار متمردة عرفناها في الستينات الماضية، يعاد زرعها اليوم في ظاهرة بل مظاهرة (تجديد) طلع لها كتاب اليوم في برية مشرقية مغربية صارمة يراد لها أن تزهر مصائر محسنة جينيا أشرتُ. 

كتاب لا يجتذب قارئا فاشل 

قليلة هي الكتب الموضوعة بالعربية مؤخرا تقرأ بسلاسة واستمتاع إلى نهايتها، لارتباك غالبا في منطق تدفق الأفكار وترابط الأجزاء. كتاب فاتحة مرشيد (لحظات لا غير) يقرأ بسلاسة، سواء كنتَ متفقا معها في الرأي أو غير متفق. الكاتبة عرفت في الأقل حدود موضوعها، عنونته (لحظات لا غير) لم تعنونه لحظات خالدة ولا مجيدة أو لا تنسى.. إلخ، عارفة إن حياة اليوم المعاصرة لا تحتمل ثقلا باهظا قد يضفيه البعض على علاقاته. سر نجاحها هنا في ثقافتها، المنفتحة، الواسعة، اطلاعها على بعض أفكار عصرنا الأساسية، معرفة يمكن تلمسها في تفاصيل صغيرة للكتاب، موظفة في نصها بنجاح، لا تشعر مقحمة من ثقافتها إقحاما. ذلك من عقل راجح بالطبع، نضج وتمرن ورقى بدراسة علمية، دكتورة في أمراض الطفل الرضيع، عاليا إلى صعيد الشعر الداخلي في كتابها، بأسلوب ناجع حتى لكشف وربما معالجة واقع. 

روايتها، كما على الغلاف، الأصح قصتها الطويلة، لما لها من أحداث وشخصيات قليلة وموضوع محدود بلا تشعب اجتماعي وتعقيدات، ذات ميزة شائعة صالحة لقصة طويلة: الاختصار، قد غدت بيد فاتحة فريدة، لقدرة بيّنة على الرسم والنحت بالكلمات، بألوان باردة ولمسات خفيفة مطلوبة لحال ساخن متجهم، موحية بعيدا. إنه نوع من قصص بسيط ظاهرا، عميق في الجوهر، قد يكتبه أدباء شبان، يناسب إمكانياتهم المعرفية المحدودة مطلع حياتهم، يستجيب لرغباتهم في التعريف والتعرف على الذات، عبر حوار مع آخر، يتبدى غالبا صورة أخرى عن الأنا، قصة من نمط (مرحبا أيها الحزن) لفرنسوا ساغان، (ضباب في الظهيرة) لكاتب السطور، حيث النَفَس الوجودي بين الكلمات يُسمع في معاناة صامتة. 

رومانسية فاتحة مرشيد غير غثة، ولا منعدمة الاتصال بالواقع، إنها حالمة نعم، غنية بتفاصيل الروح والجسد تحركا في واقع ملموس مرئي، لها انتقالات موسيقية رشيقة، قوامها العزف بالكلمات، حركة ناعمة، عزف ماهر، مع درجة عالية من رصانة فكرية تجتذب القارئ الحصيف، النقيض ربما لتفكير ومشاعر المؤلفة. ها هنا بذرة للفن. إقناع المختلف من غير آه وإكراه. 

حسنا، لن انجر وراء فكرة إنها تكتب عن عالم والذي يعيش الآخرون فيه آخر. المهم نجحت فاتحة في تحقيق استقلالية لنصها، لعالم قصتها، هذا كاف لاعتبار النجاح الفني قد تحقق. 

الكتاب الذي لا يجتذب القارئ الفطن فاشل. كيف يجتذب الكاتب قارئه؟ ذلك هو الفن. ما هو الفن؟ التحليق بمنطق في سماء من لا منطق؟ في سماء خيال و معك أرضك؟ للفن أسست على أي حال معاهد، لها مراجع رصينة وبحوث جديدة. هل يمكن إيجاز نظرية للفن وتقديمها مختصرة؟ قد تقول الفن هو الإقناع. لكن، إقناع مَن؟ قارئا مسطولا أم قارئا مسئولا؟ القارئ قد يكون أشد يقظة من كاتب، أو قارئ أرسى قناعاته على مفاهيم جاهزة؟ لنقل إذن: قارئ يبحث عن جديد، ارتقاءً بروحه وما حوله إلى أعلى، خروجا من أزمة، لهذا هو يقرأ. 

الفن وفاق 

الفن يخاطب الجميع عادة، مقربا مختلفين بعضهم لبعض، من أجل وفاق عاطفي وذهني وسلام بسلام. وقد يخاطب فنٌ الخاصةَ هنا، على حساب خاصة هناك، موسعا هوة بينهم، وكذا بينهم جميعا وبين محيطهم، في حال سعى إلى تآلف وسلام عازفا على غير لحن قوة الفرد الخاصة في مجابهة المجهول. 

 النجاح الذي أصابته العراقية ميسلون والمغربية فاتحة لم يكن من نصيب السورية فاديا سعد بروايتها (مزار أبو طاقة).. أشير أيضا إلى كاتبة سورية أخرى، إيمان سعيد، كتبت سيناريو رائعا، وهو فن نثري أيضا، لأروع مسلسل شاهدناه منذ فترة طويلة، أقصد (سحابة صيف) اسم البلد هنا يتوّج دلالة لنهوض نثر المرأة بل المرأة العربية عموما، وكنت ذكرت في مقال آخر الكاتبة السورية بيانكا ماضية، والكاتبة الجزائرية فاطمة إبراهيمي، غيرهما، لا بأس بالمرور على ما قد نرى فيه ضعفا تجنب تكراره. 

لـ (مزار أبو طاقة) وهي رواية عن حياة ضيعة سورية تفاصيل غنية كثيرة، لغة ذات نزوع كلاسيكي، أشخاص متنوعون، طبيعة خلابة، كل ما تحتاجه رواية ناجحة، إلاّ الشكل المدروس والأسلوب المعالَج، حتى العفوي منهما يمكن أن يكون شكلا وأسلوبا متينا إذا تم تشكيله بحذر وانتباه، لكن الكتابة كما اتفق، السرد العشوائي، إهمال ترتيب المشاهد حسنا.. لا يؤدي إلى خلق رواية. لا يوجد بناء معتنى في هذه الرواية، إنما خليط متراكب من حياة ضيعة. 

فاديا تفكر عميقا بلا شك، واضح ذلك في تركيب جملها، في مزجها الفلسفة بالشعر، لكنها لا تجيد صب أفكارها في جمل سلسة. منذ جملها الأولى تشعرك إنها رغم رصانتها مرتبكة (هناك لسعة من البرد تداور أجواء القرية الجبلية..) لم تطرق أسلوبها جيدا ليكون طيعا لقراءة متواصلة، وعورته تصد القارئ عن التوغل فيه، واضح (تداور) هنا كغيرها في جمل أخرى ليست في مكانها الصحيح. الإفلات من طوق السرد ضروري، لكن بدراية، لا باحتقار أسسه الجمالية، التناغم، التسلسل، الانقطاع الموقوت، الوضوح، الغموض الموحي، عمق الفكرة، منطقية السرد، ترابطه، صحة توظيف وتنسيق الكلمات. 

ليس حتما أن يمتلك روائي ناصية أدبه في أول إعماله، لكل كاتب طفولته الأدبية، أسلوبا وفكرا وفنا. في دول متقدمة يستعين كتاب ودور نشر بمؤسلبين، لإعادة صياغة نص أو عمل إلى أفضل حتى يتمكن الكاتب بعد مراس، عقدا أو أكثر ربما، من تطويع لغته وجعلها فنية عذبة.  

لكن إعادة صياغة نص أصعب غالبا من كتابته، عرفت بتجربتي، عملت مؤسلبا إضافة إلى الترجمة في السبعينات والثمانينات الماضية بدار نشر معروفة. بعض النصوص استهلك روحي لإعادة صياغته حسنا، لمقطع صلة بما قبله وبعده، بعيدا أحيانا إلى عدة صفحات، هكذا كنت أترك أحيانا جانبا النص العربي الموكل إليّ تعديله وأضع ترجمته مباشرة عن النص الأصلي، لكسب الوقت والجهد. 

الرُقي بمراجعة التجربة 

وصف المكان والأشخاص والمواقف يعتبره كتّاب، لا كلهم، أساسيا لعملية سرد، يُستَسهل حين يؤخذ كأنه نتاج مراقبة ما قيل عنه عين كاميرا. لكن إدارة حركة كاميرا فن أيضا. في رواية ينبغي للوصف أن يكون ضرورة منبثقة من داخل الموضوع، من الحدث وصيرورته، لا مقحما عليه من الخارج فعلهم في كلاسيكيات هابطة، أو ملونا بمزاج بطل كما في أدب عاطفي، بذريعة إدخال القارئ أيضا في الجو. الجو ليس خارجنا وداخلنا فقط، بل ما ساهم أيضا في صياغة حدث، لا يظهر عرضا دعما لصورة ناقصة، بل بضرورة لكشف عمق واقع، عمق ما يتكلم عنه الكاتب. الوصف ليس ديكورا أو سورا محيطا مجرى ما يحدث، بل فضاء حركة عقل وعاطفة إلى أعلى، هو هكذا في الغرب، يقال مثلا: لا يوجد جو سيء بل ملابس غير مناسبة. في الشرق هو سور نعم، ثمة تبعية لنص وشخص للجو، بدل استقلالية ضرورية عنه، هو سقف لا نتجاوزه غالبا, أقصد بالجو لا النوء فقط، بل النفسي، والفكري، ما تتفاعل معه ذات إيجابا أو سلبا، تجاوزا أو نكوصا، في تشكل فردي يتبعه تشكل أمة. 

ليس جديدا الكلام في تحدي الغرب لطبيعته الباردة القاسية، واستجابة قوم كالعرب لطبيعتهم الدافئة الرحيمة، قصد ارتقاء، نظرية مصيبة ربما لنمو مجتمع وفكر يُبنى عليه أدب ونقد وسياسة وكياسة، قد لا تصيب إذ تُوَسّع تطبيقاتها من الجغرافيا لتستوعب التأريخ مطلقا، قديما أو قادما، إذ إن وعي الشعوب وقادتهم، وكذا رقيّ الوعي بمراجعة تجربتها، يغير قواعد ومسارات مصائرها، نحو الأمام بجدوى وتآلف، أو إلى الخلف باختلاف وهذر فهدر. مع مراعاة استقطاب الوطنيين عادة يكون الائتلاف منسجما، ثم ليلعب بعد ذاك مَن شاء ما شاء جانبا، خارج دفة قيادة الاستقرار. في حال اعتماد تلك النظرية لرفع مجتمع، الغربي مثلا، وخفض آخر، الشرقي تحديدا، انعزالا أو اغترابا أو استعلاء لأي منهما عن وسطه والعالم عموما، يسود انعدام ثقة مؤديا إلى نتائج سلبية، كاحتلال العراق ومذابح غزة، يتبعها استهجان ثم ردة فعل تالية. عقل الطبيعة البهيمي قابل لترويض ليس كعقل مجتمع إنساني طامح لنبل، من هنا نرى الاستسلام والهوان، أو الرفض والمقاومة، في صلب كتابة وإبداع. 

الفرق بين الشرق والغرب موجود في واقع، على سطح نص، إنما ليس في عمقه إذا كان النص فنيا واعيا، ولا في فكر كاتب إذا أبدع، ولا في عملية الإبداع التصاعدية نفسها، فهو فرق موجود لتجاوزه. 

فاديا أخذت الوصف باعتباره هدفا، كأحد أهم محاور السرد، بدل تقنينه إشارات عابرة موحية في سياق متكامل يتابع المهم، يحيط الفكرة الملهمة الخفية تحت النص كله. 

لم نعد نسرد من أجل المتعة وحدها أو منح الأشياء هوية وتثبيت تأريخ لأمكنة، بل أيضا لكشف سر مطمور تحت الاعتياد، تحت الغفلة، تحت الكسل، تحت كل ما يعيق تحقيق وجودنا كاملا. تبدأ فاديا ص 11 فقرتها: وقف عباس.. ثم تنسى الكاتبة.. تشط.. و هيا يا كاميرا الكلمات، صوري، لك صوري بانوراما، وبعد صفحتين تتذكر لماذا وقف عباس. هكذا يصبح النص وقراءته ليس فنا ومتعة بل أشغال شاقة. الرواية فن مضمر، لا يُكتشف بسهولة، قبل أن تكون وثيقة احتجاج أو إعجاب، أو بدعة ظاهرة. 

العالم متنوع 

عالم الكتاب يجب أن يكون مكتفيا بذاته، يقترب من الصدق الذاتي إلى الصدق الموضوعي، اقتراب محتواه الجزئي من فرد أو فردي إلى كلي لعموم الناس، حيث التفاصيل الخاصة موحية مجدية تصب في واقع عام، مرتبطة بعضها ببعض بمنطق سليم، وصولا متدرجا إلى نهاية يراد وضعها لقارئ، لسبب نبيل. التنكر لأساسيات عمل يخذله، ذلك يحدث من انقياد كاتب لهواجس متحركة بإغواء من خارج العمل الإبداعي، كالرغبة في كسب أو إرضاء جهة أو طيران غير مدروس فوق صفحات أو تكثير عدد صفحات، يسحب ذلك مضامين العمل إلى خارجه، يشتتها، حيث تبدأ تفاصيل تتفاعل في جو سياسة خانق، منتجة عادما فكريا غير فني ولا صحي، وقت ينبغي للفن أن يكون، بإنسانيته ونقائه وجماليته المشروطة بمنطق الرفعة والعدل، على صعيد فردي واجتماعي، معادلا للشرور بكل أنواعها، وهكذا برأيي ينبغي أن يُنشر ويُدرس في إعلام ومعاهد، أو يكبو، خاصة لو غلّب مبدعه مشارط التعسف والسياسة، اللينة والصماء، على شروطه المرافقة لتفتحه. 

إذاً، قدّامنا بواجهات مكتبات وشاشات فنّان وأدبان عموما، هذا لو سَرَت تسمية الفن والأدب عليهما بعد تسليم واعتراف بشروطهما الذاتية، لكلِّ قيمه الجمالية، ضمنا الأخلاقية، وكذا أهدافه السياسية الذائبة في المتن. لنقل أن الأول معني ببث القيم الإيجابية المعروفة، ارتكازا حتى على الفلسفات والأديان، الثاني لا يعبأ لها بل وبات يروِّج لقيم سلبية، أحدهما جوار الآخر في مد وجزر، ضمن صراع فكري يُسيطر عليه عبر سيطرة على إعلام ومنه النشر. هكذا كل عالمنا أيضا، خارج هذا النطاق، نطاق الأدب والفن، يسير بساقي عارض أزياء رشيق، في بنطلون جميل، بخلعه قد تتبدى إحداهما عوجاء، تركنا التدقيق قد نرى بعد حين كليهما، لكاوبوي، معوجتين. فضائح إقناع إكراه، ذلك من حكايا عالمنا، عالم إيه آه، على غافل تبيّن حاله، رفعة لنفسه، متحسبا حتى لأخطار يقظة حوله، أو ليبق في غفوة، لا يرفع رأسه. 

النثر كالسياسة مد وجزر. 

ينجح كاتب، آخر يفشل، قصدت النجاح الإبداعي، لا الإعلامي، الأخير تبويق وتسويق. بل قد ينجح كاتب بكتاب أخلص له بهاجسه وضميره، يفشل بآخر لدواعي أخلاصه لإغواء شهرة أو غيرها. محمود البياتي كان ناجحا في (رقص على الماء) فشل في آخر صدر العام الماضي بعنوان (في انتظار الغريب) لا علاقة كبيرة للعمر هنا أو هناك بقدرة الكاتب على إبداع، نعم، الإبداع يتطلب قوى جسدية أيضا لتحقيقه، لكن غوته أنجز أفضل أعماله فاوست في شيخوخته، وبالعكس أنجز نجيب محفوظ أفضل أعماله في مبكر حياته برأي كثرة، أين مربط الخيل، هذا موضوع غائب الآن، نتركه، مقاربته ممكنة بفكرة إن (العقيدة الفنية) إذا كانت سليمة، متصالحة مع الآخر والتأريخ، فإن الإبداع يصل المرتجى، تشط لا يصل. والعقيدة قد تتغير لأسباب، بتغير المنتِج لتغير معرفته يتغير المنتًج. حتى الأدبي منه. كتاب محمود (في انتظار الغريب) في قسمه الأول أخلاط يوميات وانطباعات في نصف صفحة وصفحة وصفحتين لا يمكن النظر إليها ككل ذي شكل فني يستدعي التوقف. 

قصص (الحب) في القسم الثاني فم يتكلم، لا أشخاص، لا تفاعل، لم تثر شعورا عندي، أنا قارئ لها هنا أكثر من ناقد، هي ليست عملا يرمي عن أصالة قفاز تحد، وحين ترى آثار كتاب آخرين في الكتاب لا يشدك، على كاتب تذكر ما كتب قبله كي لا يكرر، ص 132 وما فيها عن الحب والانفجار الكوني، سبق لآخر تناوله في كتاب معروف. سعة الثقافة ضرورية للكاتب، والأصالة واحدة من أهم سمات الأدب، إضافة إلى مقومات أخرى، كالتشويق المرتبط بالمنطق والمعرفة والشكل. 

الكاتب منظومة معرفية مستقاة من عدة ميادين، من التأريخ والعلم، تربى إحساسه على اختيار الموضوع ومعالجته وانتقاء المفردة. سرده في ذاته ذو قيمة إضافة لدوره في العمل ككل، في تركيب السياق العام، تنبع قيمته من تكامله وسعته وتفرده، من تلاحمه، من منطقيته، من تحويله اليومي ورفعه إلى مصاف الشعر والتأريخ، من كليته، من رقته، من صلابته، من عمقه، من رنينه، من ضرورته، من تحويله الخاص لعام، سبيكة واحدة.. كل مفردة من هذه يمكن الغوص فيها والاجتهاد وتفصيلها، كيف يكتب حوار، كيف يتطور حدث، لماذا السياق المنتظم، لماذا غير المنتظم، مقومات هذه من منظور كلي للحياة ثم للعمل الإبداعي، ينبغي حضورها في عمل أدبي ليكون موضع نجاح وتأمل وبحث. 

بعض قصص هذا الكتاب استله محمود من مجموعة سابقة له وحشره فيه دون مبرر، فجعله متدنيا قياسا بكتابه السابق (الرقص على الماء) وثمة خواطر ليس فيها جدة ولا ترقى لاعتبارها قصصا قصيرة، حديثة أو تقليدية. نعم اهتم أن تكون لها نهايات مفاجئة غالبا، على الطريقة الموباسانية، لغرض إحداث صدمة عند قارئ لكن على غرار (خرعة عراقية) مثل صيحة مباغتة، أبعد ما تكون عن نهاية فنية. 

إنها نصوص نكوص، قصاصات لا قصص، رجل يكلم نفسه أو ظله ص145 كبطل سلبي لتراجع الإيجابي في الحياة، كأن الكاتب ملزم أن يصدق كل ما يسمعه ويقرأه، وأن يقلد السائد، وليس عليه، طالما هو يكتب، تبديد دياجير جهل واستنارة كاذبة وخلاعة فكرية متفشية بدعوى تغير نحو انفتاح، كأنما لم تعد حولنا مشاكل كبيرة كثيرة. بدعوى الأدب الخالص ينصرف كاتب عن أمور السياسة، عن بؤر الصراع الحقيقية، نعم معه حق في ذلك لو التغيير في أيد نظيفة. أما والمسرح يحترق ويعاني من صعوبات متزايدة خانقة، اجتماعية، بيئية، آتية من وراء كواليس أحيانا، فلا بد من وصول الجميع إليها، حتى إخماد الأدخنة، بعد ذلك إلى المقاعد، تفرّج على العلاقات العامة كيف تمثل وتأمل ماذا يعيق تفتحها، ماذا يعيق إنسان عن بلوغ أقصى حدوده الإنسانية.  

أنضج قصص المجموعة ص 188 بعنوان (سينما) حسنة بتفتحها تدريجيا، تتحدث عن انشقاق امرأة على رجل، موضوع أيضا سائد مروّج، لكن ماذا عن انشقاق رجل؟ تبقى القصة ناقصة، جميلة رغم قصرها، في ثلاث صفحات. 

لماذا تُنشر كتب سيئة؟ لأن النشر العربي فوضى مدروسة أو مدسوسة لربح، مثل بعض سياسات، مثل بعض قادة، مثل بعض رعية، إذا لم تُنظف من أهل الفطنة والشجاعة غلب التلوثُ الاجتماعيُّ البيئيَّ، وفسد كوكبنا. 

أوان غربلة 

المخضرم عبد الرحمن الربيعي تنشر له الفرقد، دار شامية صاعدة، مجموعته (وجوه مرت) فيها يواصل بأسلوب شيق لطيف كتابته عن عالم شبابه، عن مدينة الناصرية، عن بعض وجوهها، أناس تفردوا محافظين في نفس الوقت على انتمائهم للمدينة. ثمة تقديم حسن في الصحافة العربية عن المجموعة هذه لا مجال لزيادة عليه، ومع كتب الربيعي الأخرى مذ تخلى عن سيرياليته بأولها (السيف والسفينة) تشكّل المجموعة نغمة ذات إيقاع هادئ متكرر، أشبه بضرب موج وسنان على شاطئ مرنان، هو الأدب العراقي الفسيح، مساهما بذلك في تحديثه كزملائه الستينيين الآخرين الباقين، محمد خضير، عبد الستار ناصر، فاضل العزاوي، عائد خصباك، سامي مهدي، حميد سعيد، جمعة اللامي، لطفية الدليمي، متأخرة قليلا، بثينة الناصري، مَن تبقى منهم؟ ها، كاتب السطور، وغيرهم بعد حين، جيل السبعينات، كاظم الأحمدي، سعد البزاز، أمجد توفيق، عبد عون الرضوان، صعودا إلى اليوم مع تباين مشارب وتجارب، شكلت عبر نصف القرن الماضي سِفرا ذا قيمة، يُفرز منه اليوم نثرا وشعرا في مساهمات ومجاميع إرثا لأجيال تالية، آخرها موسوعة نثرية من أمريكا، أخرى شعرية من الإمارات بإشراف فاطمة بوهراكه ورعاية الشيخة أسماء بنت صقر. 

ليس حتما ولا مطلوبا أن يكون كل المنشور أدبا عميقا. لكنْ يرتكب ناشرون إثما نحو حياتنا الثقافية حين يقدمون، مقابل رشوة من مؤلف أو ممول خارجي، أعمالا هابطة كأعمال ذات قيمة. لا بأس بنشر روايات قراءة سريعة كما رأينا أخيرا، روايات إمتاع، في بزة خاصة لتعرف، كما لرجاء الصانع، سلوى النعيمي، علي بدر، لجمهور لا يحب تصديع رأسه بمشاكل دنيا وآخرة. هكذا لا يخلط ناقد في الأقل بين لابس جلابية وسموكينغ، تقارب رأساهما في مقصورة، وتحولت الأعين إليها، بدل مراقبة خشبة مسرح، دع عنك أدخنت وتلظت، والخطر للنظارة، وكذا لمن أضرمها. مع احترامي للجلابية. أنا ألبسها. وللموضوع بقية. 

العرب الأسبوعي السبت 9/1/2010 

www.alarabonline.org 

النثر العربي من الإبداع إلى الإمتاع (1-2) 

النثر العربي من الإبداع إلى الإمتاع (2-2) 

Leave A Comment

Recommended Posts