الأستاذ عماد الدين إبراهيم
(لا أعلم إن كنتَ تسمعني أم لا…) بهذه الجملة على لسان (أمينة) تبدأ فاتحة مرشيد روايتها (المُلهِمات)، من التوق إلى البوح… إلى الكلام… إلى الاعتراف الذي لم يكن متاحاً لأمينة حين كان زوجها (عمر) في كامل صحته ووعيه،
لكنه الآن في غيبوبته غيرُ قادرٍ على فعل أي شيء فهو ليس حياً وليس ميتاً، وهي فرصة لن تتكرر للزوجة المكلومة… المضغوطة.. التي تكاد تنفجر من الصمت، لأنه لم يكن يترك لها فرصة للكلام والحديث معه، وهو المشغول دائماً بأعماله وبدار النشر التي يديرها وبغرامياته التي خصص لها شقة سرية ملاصقة لدار النشر.
هذا ما عرفته مؤخراً حين زارت الدار أثناء الغيبوبة التي يرقد فيها في المشفى، بعد حادث السير الذي وقع معه، وأدى إلى وفاة العشيقة التي كانت بجواره، لقد كانت مفاجأة صادمة لها حين اكتشفت عش الغراميات هذا، فأرادت الانتقام منه على طريقتها.. بالبوح.. بالكلام.. وبالاعتراف له بما لا يرضيه، خاصة بعد أن أخبرها الطبيب المعالج بأن هذا الأسلوب ربما يكون ناجعاً ويجعله يخرج من غيبوبته هذه، وسرد عليها حادثة طبية تؤكد ذلك، فبدأت بجلسات الاعتراف أمامه لتخبرَه بأنها كانت تشعر بخيانته لها رغم صمتها، وبأنها ردَّت له ما بادر هو إليه، هو خانها مع عشيقاته – ملهماته، وهي أيضاً خانته مع (صبري) الفنان التشكيلي الفلسطيني المقيم في النرويج الذي قدِم إلى المغرب لإقامة معرض فني، وتم التعارف بينهما على يد صديقتهما المشتركة (صباح) المخرجة التلفزيونية التي تعيش حياتها منفردة على هواها، وجرى بينهما ما جرى، ونشأت علاقة جسدية وعاطفية.
شخصيات الرواية كلها من عالم الأدب والثقافة والفكر. روائي.. صاحب دار نشر متذوق للأدب.. مخرجة… فنان تشكيلي.. إلخ. وهذا ليس جديداً على الرواية العربية أو العالمية، فهناك الكثير من الروايات التي خاضت في هذا الفضاء المعرفي وكان أبطالها روائيين وشعراء وفنانين، شخصيات (الملهمات) كلها تهيم في عالم الكلمات والألوان والمشاعر والعواطف التي ينبع منها الإبداع والأدب، ويتفق في ذلك الجميع، يقول بطل الرواية إدريس:
(أنا صنيعُ كل النساء اللواتي عبرن حياتي، بدءاً من التي منحتني الحياة.. إلى التي أيقظت الرجلَ بداخلي.. والتي فتحت لي باب الإبداع على مصراعيه.. والتي جعلت قلمي يتألق.. والتي كانت ورقة مبسوطة تحت يدي.. فكلُّ كتابٍ عندي مقرونٌ بامرأة.. وكل فرحة مقرونة بامرأة.. وكل انكسار كذلك).
العنوان (الملهمات) معبرٌ تماماً عن المضمون، فالكاتبة تسرد لنا في الرواية دور العلاقات بين الجنسين في الإلهام والإبداع عند الرجال والنساء، واللافت للنظر في الرواية هو الجرأة في تناول الجنس، وهي سمة مشتركة عند الكثير من الكتاب والأدباء المغاربة حين يلامسون موضوع العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة، فالكاتبة لم تكتفِ بالتلميح الخاطف، كما أنها – بالمقابل – لم تستغرق فيه بالتفاصيل المثيرة ليتحول إلى إثارة مجانية ممجوجة، وكأنها هدف النص وغايته. كما نجد في الرواية طقوساً غريبة في ممارسة هذه العلاقة الحميمة للحصول على عمل فني، مثلاً العلاقة بين الروائي إدريس والفنانة التشكيلية الألمانية ريجينا التي تزيده غرابة حين تقوم بدهن جسديهما بألوان متعددة، ثم يمارسان رقصة المتعة على قماشةٍ بمقياس سرير، فتختلط الألوان عشوائياً وتتشكل لوحة منها. وقد تجمَّع لديها عددٌ من هذه اللوحات أطلعته عليها، وتنوي إقامة معرض فني غريبٍ ونادرٍ وفريد منها، وكل لوحة ذكرى لعلاقة حميمة عابرة.
ما يسترعي انتباه القارئ أيضاً الاقتباسات والجمل المبثوثة في فصول الرواية والمنسوبة إلى قائليها من الأدباء والمفكرين، والتي تقال على لسان بعض الشخصيات، وهي موظفة بشكل جيد في الرواية وليست مقحمةً إقحاماً فظاً وممجوجاً كاستعراضٍ ثقافي – معرفي، فتأتي كمقولة تختصر بها الشخصية موقفاً معيناً أو رأياً، وهي بذلك تثري معارف القارئ وثقافته بشكلٍ سلسٍ ولطيف.
وكما بدأت الرواية بحاسة السمع والرغبة بالكلام تنتهي بها أيضاً، تقول أمينة: (تهيأ لها سماعُ عمر وهو يردُّ عليها: من يرغب في معرفة الحقيقة.. فليبتكرها).
فاتحة مرشيد الروائية المغربية والطبيبة تقدم لنا في رواية (الملهمات) نصاً روائياً جميلاً وجريئاً وممتعاً، وهذا ما لمسناه أيضاً في روايتها السابقة (مخالب المتعة) التي تشترك مع هذه الرواية في الجرأة لكنها تفترق عنها في الفضاء الروائي ونوعية الشخصيات التي تعرضها.
الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية،
2017/12/19
http://thawra.sy/_print_veiw.asp?FileName=3861452520171219093656