0%
Still working...

المرأةُ والاغترابُ في قصص الكاتبة المغربية (فاتحة مُرشيد) 

 

الدكتور وليد جاسم الزبيدي/ العراق. 

-المقدمة/ 

  تطوي صفحاتِها بعد عناءِ الروايةِ، للولوج في مسالك فنّ آخر لا يقلّ مشقةً عن سابقيه (الشعرُ، والرّوايةُ)،ألا وهو (القصّة) تتحفُنا -الدكتورة فاتحة مُرشيد- باصدارٍ مميّزٍ معطّرٍ بأريجٍ يحبّرُ بياضَ الورقِ بمجموعةٍ قصصية بعنوان (لأنّ الحُبّ لا يكفي) الصادرةُ عن المركز الثقافي للكتاب، للنشر والتوزيع، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى سنة 2017م. وصدرَ الكتاب باللّغتين العربية والانكليزية، فكانت الانجليزية من إنجاز الاستاذ نور الدين زويتني. 

    تصدّرت المجموعةَ مقولةُ (إيميل سيوران) ؛ (1911-1995) فيلسوف وكاتب روماني نشر اعماله باللغتين الفرنسية والرومانية ؛ ومقولته: (لوكانَ آدمُ سعيداً في الحُبّ لجنّبنا التاريخ.).وتقع المجموعةُ في (176)صفحة، تضمّ ثماني قصص بأساليب فنيّةٍ مختلفةٍ، في الشكل والتناول والقضيّة والرؤية؛ والقصص هي: (السّرُ في الأنامل؛ إدمان؛ اللعنةُ الجميلةُ للشعر؛ عدوى الحُبّ؛ مسلسل تركي؛ لأنّ الحُبّ لا يكفي؛ لأنّني أستحقّهُ؛ شراك الحنين.). 

-لماذا القصّة..؟/ 

 كيفَ لكاتبةٍ أن توفّقَ في مشوارها الأدبي، بالتنقّل بين فنونٍ وأساليبٍ واتجاهاتٍ مختلفة، فقد بدأتِ الدكتورة(فاتحة مُرشيد) مشوارها في الانتشارِ والذيوع في الطبع والتوزيع مع الشعر، فكانت الدواوين (ايماءات/2002، ورق عاشق/2003، تعال نمطر/2006، أي سواد تخفي ياقوس قزح/ 2006، آخر الطريق أوّله/ 2009، ثم ما لم يقل بيننا/2010، انزعْ عنّي الخُطى/2015)؛ ثم جاءت كتابة الرواية في روايات( لحظات لاغير/ 2007، مخالب المتعة/ 2009، الملهمات/ 2011، الحق في الرحيل/ 2013، التوأم/ 2017). نلاحظُ هذا التنوّع الكتابي المعرفي في كتابات د. فاتحة مُرشيد، لماذا؟ وكيف..؟ 

كيف يمكن لشاعرة أن تكون روائية وقاصّة وأن تجمعَ هذا الكل في قلمٍ ومدادٍ وورقٍ عاشقٍ واحد..؟ 

 لأن المشاعر والابداع لايحدّهُ شكلٌ معيّن، أو بناء كونكريتي لا يمكن تغييره أو العبث بهِ، فالأفكار وما يعتلجُ في الذات وفي العقل الباطن، وما تكتمهُ الأسارير مع امتلاك الأدوات الابداعية ومواكبة التقنات في السّرد، ومعرفة استخدام مفاتيح الكتابة ونحت الأفكار، تُبنى وتُخلق ثم تولدُ بشكل ولادتها فتأتي مرةً شعراً، وتارةً روايةً، وأخرى تأتي قصّة. هكذا هو الكاتب المبدع، لايخطّط ولا يقرّر كيف سيكون الوليد الجديد، بعد مخاضٍ ومعاناةٍ، فما أن ينتهي من هذا الصراع والتقويض والبناء، حتى ينتبه كيف كان نتاجه وتحت أي مُسمّى أو شكل. 

-عنوان المجموعة: (لأنّ الحُبّ لا يكفي)/ 

     لماذا أختارتِ الكاتبةُ هذا العنوان؟ هذا أولاً، ثمّ هل الحُبّ سلعة أو كميّة من الهواء؟ هل هو جرعات علاج..؟ ؛ ولماذا لا يكفي..؟؛ عنوانُ يستفزّ المتلقي، فيه من الغرائبية مما تدعو القارىء الى البحث في المجموعة للوصول الى أجوبة أسئلته. 

 فالحبّ دونَ كرامة، دون أموال، دون عيش كريم، دون فكر، دون حريّة، دون احساس حيّ، دون .. ودون… لا يكفي، ولا يكتمل..!!؟ فلا حبّ بالمطلق، وكثيرةٌ هي التجارب التي شاختْ فهرمتْ فماتتْ، وعديدةٌ المحاولاتُ التي ما استطاعتْ أن تقتحمَ جدار العادات والتقاليد، جدار القوانين والأعراف، كثيرون من الأحبةِ منْ هربَ، أو انتحر، نتيجة الفشل؛ إذنْ الحبّ لوحدهِ لا يكفي بل يحتاج الى مقوّمات نهوضهِ واستمراره. وقصص الحب في تراثنا الأدبي شاهدةٌ على بيان نهايات العلاقات مثل(روميو وجوليت)، و( قيس وليلى)، (قيس ولبنى)، ..الخ، سرعان ما انتهت وكانت خواتيمها تراجيديا . 

المرأة في المجموعة القصصية/  

   في كل أعمالها (شعر، رواية، قصة) تظلّ المرأةُ هاجساً وقطباً مهماً في الفكرة والهدف والنتيجة، كتاباتها من بنات الواقع، بما تعيشهُ المرأة والانسان عموماً من اضطهاد وحرمان ودمار وحروب بكل أنواعها وتصانيفها. في هذه المجموعة نقرأ ونتابعُ المرأة ومعاناتها، والضغوط المجتمعية، 

    –الوجه الأول للمرأة /بصورة شهرزاد: 

      ففي القصة الأولى (السّر في الأنامل/ ص11-34) صورة للمرأة، ولظاهرة ما عادت خفية أو سريّة، في المجتمع المغاربي أو العربي عموماً، هو الاشتغال في صالونات وحمامات وأماكن خاصة تسمّى (للتدليك) وهي تسمية مهذبة لـ( الدعارة)، قيام نساء بعمل حركات وأعمال بايديهن وشفاههن وصدورهن لرجال عراة، لتكون بعدها المواقعة والاتفاق على ممارسة جنسية. مهنةٌ وتجارةٌ رابحة، تمارسُ في ظل القانون، وأمام أنظار الجميع.  

     في هذه القصة نرى (شهرزاد) التي يستغلها رجل اسمه (سعيد) لتعمل في مهنة التدليك الباعث للاسترخاء، يدّعي بأنه يعشقها ويخطّط معها أن تستحوذ على قلب صاحب المحل (صالون التدليك) وأن يتزوجها وبعدها يتم قتله من قبلهما. إلا أنها تكتشف بعد حين ما يخطط له غريمها (سعيد) باستخدامها جسراً لأهدافه ونزواته لقتل الرجل (مسيو فيليب، فرنسي، في السبعين من عمره، استقرّ بمراكش) ، وبعدها يتزوج من امرأة أخرى يعشقها (ليلى).  

        –الوجه الثاني للمرأة/ الرقيقة الحائرة: 

      والصورة الأخرى للمرأة في قصة( اللعنة الجميلة للشعر/ص47- 52) حيث يكونُ ديوان شعري عنوانهُ( ورق عاشق) وهو ديوان الشاعرة الروائية القاصّة (فاتحة مرشيد) وما يحملهُ من عشق ورومانسية تعلّقُ إمرأةٌ عليهِ مشكلتها وما اصابها من علاقة حب مجنونة مع رجلٍ أهداها الكتاب(الديوان) لأنهُ خيرُ لسان حال يعبّرُ عن حالة العشق التي يعيشها، إمرأة متزوجة وأم لولدين، والرجل( آدم) أعزب فاقَ عمرهُ الأربعين ، وهما يمتهنان مهنة التدريس في مدرسةٍ واحدة، المرأة تُدرّسُ الرياضيات والعاشق (آدم) يُدرّسُ العربية. هذه المرأة التي وضعت حالها في هذه المشكلة، أرادتْ حلاً من صاحبة الديوان (ورق عاشق) ..؟؟ لتنصحها بالعودةِ الى بيتها وعائلتها وتعتبر ما مرّتْ بهِ كان حلماً جميلاً وانتهى. والمفارقة في نهاية القصة للدلالة على أن المرأة عادتْ لوعيها أنها تركتْ لعنة الشعر (ديوان ورق عاشق) مركوناً على الطاولة، لتتحرّر من هذه اللعنة. 

   –الوجه الثالث للمرأة/ المرأةُ الحُلم : 

         في قصّةِ( عدوى الحُبّ/ 55-58)..تبدأ القصّةُ بعبارة( هو الحبّ هكذا.. لايحترمُ سوى نفسه. / ص55). قصّةٌ أخذتنا الى الأجواء الرومانسية الصادقة التي كان يحياها النّاس سنوات الثمانينات من القرن الماضي،في غياب التقنات الحديثة   ( وسائل الاتصال-الموبايل، الانترنيت..)، فيها يعيش العاشقُ على احلام ومواعيد وذكريات، وكيف يكتبُ الرسالة ليمزقها عشرات المرّات حتى يقتنعَ مع آخر ورقةٍ على ما سطّرَ فيها من مشاعر، قصّة امرأةٍ يحلُمُ بها عاشق ويهيم بها وهي لا تعلم، هذا الشاب والطالب الجامعي هو (مراد) ، والحبيبةُ هي (مريم) من بنات مدينته، فكان يتحدّثُ (مراد) الى صديقه كل شيء عنها حتى يصفها لهُ بكل تفاصيلها في كلّ ليلةٍ يتسامران معاُ حتى حفظَ صديقهُ قصصَ صاحبهِ العاشق بل وحفظَ الرسالة التي كتبها وهو قد قرّرَ أن يرسلها بيد أخته عند رجوعه اليها لتعرف مدى حبه، وما إن تمرّ الأيام حتى يتوفّى العاشق (مراد) قبل رجوعه الى أهله، مما يجعل الرسالة بيد صديقه، الذي يذهب الى أهله للتعزية ويلتقي بحبيبة صديقه (مريم) التي عرفها من وصف صديقه (مراد) لها، وقد طلب منها في العزاء، بأن سيرسل رسالةً اليها بيد أخته ، وهو إذ أرسل ذات رسالة صديقه المتوفّي وهو لم يغيّر شيء سوى اسم المرسل حيث كتبَ اسمه، فتزوّج منها، وأنجبا ولداً أسماهُ (مراد)…؟؟!! 

      قصّةٌ تبعثُ على الادهاش، فالقصّةُ تبدأ وتنتهي بلسان صديق (مراد) ، الراوي، كما أن الكاتبة تعاملت مع هذه القصة تعاملاً طبياً، بدءاً من العنوان(عدوى) حيث نظرتْ الى الحب من الجانب الطبي، وكأنهُ فيروس يمكن أن ينتقلَ بالعدوى بين صديقين، فما دامَ [الراوي] في القصة هو صديق (العاشق/ مراد) فصوّرتْ لنا الكاتبة حالة انتقال هذا (الحب/ الفيروس). 

    والادهاش أن الكاتبة لم تخبرنا اسم الراوي للقصّة..؟؟!!!! لماذا..؟؟ وجعلتْ من هذا الراوي لسان حال القارىء ، أو المتلقي، فماذا تسمّي هذه القصة هل هي خيانة الصديق لصديقه..؟؟ أم هي وفاء له..؟؟؟ أسئلةٌ تظلّ قائمة أمام المتلقي..؟؟ وما ذنب هذه المرأة التي لا تعرفُ بمشاعر انسان ظلّ سنين لم يصارحها؟، ولم تعرف مشاعره..؟؟ فتزوّجتْ من صديقهِ الذي بعثَ برسالة العاشق الذي وافاه الأجل. 

   –الوجه الرابع للمرأة/ المرأة الأرملة: 

     في قصة (مسلسل تركي/ ص61-66)، أولاً، لماذا مسلسل تركي،؟ لأن المجتمع العربي أبتلي بالمسلسلات التركية التي غزت الشاشات وكل وسائل الاتصال، وبعدد كبير من الحلقات وعلى أجزاء عدّة، بما تمتلكهُ من أساليب فنّية ووجوه ومناظر، فضلاً عن استخدام دبلجة الحوار باللهجات العربية مما يجعلها أيسر في فهم ومتابعة المتابع العربي، وقد أصبحت المجتمعات العربية مهووسةً بها.  

      تطلّ علينا المرأةُ الأرملة( خديجة) التي كانت قبل وفاة زوجها، تعمل في القطاع المصرفي، وأخفتْ رغباتها خلف رغبات زوجها الذي كان منطوياً على نفسه، الهارب من الناس ومن الحياة. كانت شخصيتها مهزوزة، لم تحتفظ بأي حق لها، كانت تابعة بكل الأمور لما يقرره الزوج، فالرجل هو صاحب القرار وهو الذي يمتلك طابع المسؤولية، وهو الذي يقول (لا) و(نعم). 

   وصديقتها (آمال) المرأة المطلقة، يلتقيان بعد حين،بعد وفاة زوج (خديجة)، ليشعرا بالحرية والخروج من قيود الحياة الزوجية، فيخططان ويسافران ويمارسان الرياضة ويرتدان صالونات الحلاقة والسينما والمسرح، لتعويض ما فاتهما في حياتهما مع زوجهيما وما خسراه. 

-الوجه الخامس للمرأة / المهاجرة:  

    في قصة (لأنّ الحُبّ لا يكفي/ ص69- 74) تكتبُ الكاتبةُ في هذا الهمّ والحُلمِ الهمّ الذي يتصوّرهُ البعض سحراً وخلاصاً عمّا يعيشهُ الانسان العربي من قهر وجور في بلدهِ، فتأخذُهُ مخيلته لعولم الفردوس، في هجرةٍ من النار الى الجنّة، إمرأةٌ أرادت أن يكونَ النهارُ للعِلمِ والدراسةِ، والليلُ علم الشغل والرّقص، المرأةُ التي تقولُ: (الرّقصُ حياتي..)، عالمُها في دولة المهجر(سويسرا) عبارة عن (كباريه الشرق)، مغربيةُ الولادةِ والنشأةِ، ارتبطتْ برجل من بلاد الرافدين، هو الراقصُ بصورة أخرى ، الرّاقصُ بالكلمات- شاعر-، يساري تقدّمي، أخبرتْهُ حبيبته الراقصة، منذ البدء وكاشفتهُ بأن الرّقصَ حياتها ولا تتخلى عنهُ ، وأجابها: (فداكِ أنا وفدى حياتك- ص69)، لكنّهُ وبعد مرور الأيام والشهور، أخذت الغيرةُ والشّكُ يدبان في عقله وبدنه، هو الإرثُ الشرقي الثقيل، بين أفكارهِ التنويرية التي جعلتهُ يتفق معها على حب الفنّ وعدم معارضتهِ لعملها في (كباريه الشّرق) بقوله: ( أنا المبدعُ كيفَ أحاسبُكِ على عشقِكِ للفنّ؟ هكذا أقنعتُكِ وأقنعتُ نفسي التي كانت مهيّأة للإقتناعِ بأي شيء من شأنهِ أن يربطني بك./ ص70)؛ وبينَ صورةٍ أخرى لشخصية الشرقي الذي تأكلهُ الغيرةُ والشّك، وتكون أغنية (السيدة أم كلثوم) ثورة الشّك ، صادحةً في سماء القصة: 

أكادُ أشكّ في نفسي لأنّي أكادُ أشكُّ فيكَ وأنتَ منّي 

وما أنا بالمصدّقِ فيكَ قولاً ولكنّي شفيتُ بحُسنِ ضنّي 

وكمْ طافتْ عليّ ظلالُ شكٍّ أقضّتْ مضجعي واستعبدتني 

يقولُ النّاسُ إنّكَ خُنتَ عهدي ولمْ تحفظْ هواي ولمْ تصُنّي 

أجِبْني إذْ سألتُكَ هل صحيحٌ حديثُ النّاسِ خنتَ! ألمْ تخُنّي 

    وعن لسان حال (الزوج/ الشاعر-راقص الكلمات)، (قال أحدهم بأنّ }الأدبَ هو الدليل على أن الحياةَ لا تكفي{، وكنتُ أوافقُهُ الرأي حتى التقيتُكِ وأصبحَ الأدبُ لا يكفي..وحدهُ الحبّ يجعلُ الحياةَ تستحقّ أن تُعاش/ ص73.)؛ (وها أنتِ ترحلين ليصبحَ الحبّ نفسه لا يكفي). هذا الزّوج الذي عاد الى أصلهِ الشرقي رغمَ أنهُ يساري ويعشق الفنّ ويفهم أكثر من غيرهِ ما تعنيه هذه الكلمات ، إلا أن الشك والغيرة نخرا عقله وتفكيره ، ودعنْهُ في النهاية الى قتل زوجته. 

   في هذه القصّة ، جعلتِ الكاتبةُ الرّاوي هو (الزوج/ راقص الكلمات)، وهو يسردُ قصته عن حياته مع زوجته وكيف نعرّف عليها وكيف عاش معها، ثم معاناته وشكوكه التي أثارتْ فيه أفكار قتلها. ولم تجعل لهما أسماء( الزوج ، الزوجة) بل تركت للقارىء هذه المهمة لأنها تعني كل واحد فينا يمكن أن يكون في هذه القصة وكذلك المرأة ممكن أن تكون كل واحدة هي هذه الشخصية.  

-الوجه السادس للمرأة/ العاجزة:  

     وجهٌ آخرَ للمرأةِ تضعهُ الكاتبةُ هو وجه المرأةِ العاجزة، في قصة (لأنني أستحقّهُ/ ص77-80)؛ قصّةٌ أخرى بلا أسماء، لم تضع الكاتبة أسماء لأبطالها، تركتهم كمثل بعض القصص السابقة، فهي كأنها تحكي قصّةً تحدثُ لكل امرأةٍ، وتجعل السارد بلسان المرأة، التي تتحدث عن مأساتها وعمّا رى لها من طبع عادات وتقاليد، بل وأن الكاتبة انزاحتْ الى اصلها الطبي لتتحدث عن الفايروس والمرض مرةً أخرى؛ والعلاج النفسي لأمرأةٍ تريد تغيير نفسها ونفسيتها وواقعها. 

    لنقرأ ما تقولُ: ( الآخرون يسربون كل أنواعِ السّم من شكٍ وارتياب وأنتَ طفل لتمضي بقية حياتك بعد ذلك في مقاومةِ هذا السّم وفي العثورِ على لقاح للشفاء منه. تُلزمُكَ عبقريةَ باستور لتجدَ لقاحاً كلقاحهِ ضد داءِ الكلب.. اللقاح الوحيد الذي يُستعملُ بعد الإصابةِ بالداءِ لا قبله.. أجلْ، لزمتني حياة بأكملها للعثورِ على لُقاحٍ ضد داء الانسان بعدَ أن تعرّضتْ لكلّ أنواع العض./ ص 77). 

     إمرأةٌ مريضةٌ ومصابةٌ يهوس (عزّة النّفس، الكرم، الكرامة، ) العطاء دون مقابل، الولاء المطلق للزوج دون قول كلمة (لا) ، تحسّ بعد حين بخطأ حياتها وتصرفها الذي أوقعها بمشاكل كثيرة وسحق شخصيتها وحضورها، وجعلها ماكنةً تتصرفُ بدون أي مقابل، وأن تكون المضحيّةَ الأولى دون أن تأخذ من الآخر أي شيء. تحاولُ تصحيح مسار حياتها حيث تأخذُ جلساتٍ وحصصَ العلاجِ النّفسيّ التي خضعت إليهِ دون عِلمِ زوجها.   

     لكنّها في نهاية القصّةِ تُثبتُ فشلَها وعجزها عن تغيير حالها بعد كلّ جلسات العلاج النّفسي، وبعد كلّ معاناتها واصرارها على التغيير، حيثُ تنتهي : ( كرّرتُ للمرّةِ العاشرةِ نفس المونولوغ أمامَ المرآةِ كمنْ يجهّزُ نفسه لتصريح أمام الملأ ، وهي تدهنُ بشرتها بالكريم، الذي أقنعتها كلوديا شيقير عبر الوصلات الاشهارية التلفازية باقتنائهِ، وتحاولُ شحن نفسها بأقصى جرعةٍ من الثّقةِ، قبل أن تسري رجفةُ رعبٍ في أعضائها وهي تسمعُ طرقاتِ زوجِها على الباب. / 80). 

-الوجه الأخر : المكان،الغربة والحنين: 

  في قصّةِ (شراك الحنين/ ص83- 88)، يلعبُ المكان دوره كما في قصّة(لأنّ الحب لايكفي /ص69-74)؛ فبعد أن كانت سويسرا في قصّة (لأنّ الحب لا يكفي) تظهر (كندا/ مونتريال) مكاناً آخرَ يلجأ اليه الانسان للهروب نحو حياةٍ أفضل.  

   تواجهنا الكاتبةُ في بداية القصّة بخطابها على لسان الرجل المغترب: ( ثمّةَ كلمات كالسجنِ لا تخرجُ منها إلا بكفالةِ من ذواتنا../ص83). وتقولُ-الكاتبةُ- أيضاً على لسان المغترب: (الحنينُ أقوى من الحب.. قد يموتُ الحبُ ويستمرُ الحنين./ص83). 

 ويظلّ الصراع المكاني في ذات المغترب: (وحدها البلدانُ الباردةُ تمنحُ فرصَ النجاح.. الشمسُ تذيبُ العقولُ وتبعثُ على الكسل ولهذا السبب بالذات تجدُ كلّ الدول المتقدمة تتمتعُ بجو بارد/ ص 84). 

ويقولُ لسان حال المغترب: ( “مونتريال” إمرأةٌ لم تنجحْ في اغوائي رغمَ جمالها ولا في اقناعي بحبها…لا تزالُ غريمتها “ورززات” تتربعُ على عرش القلب./ ص85). 

   هذا الرجلُ المغتربُ الذي أشعلَ وقودَ ذاكرتهِ، وتجلببَ كهولةً في غربته، فقدَ زوجتهُ، وتباعدَ أولادَهُ في أمصار متفرقة، وعاشَ على ذكريات عائلة، وعلى أملِ منْ يزورهُ من أبنائهِ، ويكتوي حنيناً لهم ولمدينته الأولى (ورززات).  

الخاتمة: 

   في المجموعة القصصية تواجهُنا الكاتبةُ الدكتورة( فاتحة مُرشيد) بأمورٍ كثيرةٍ نودّ أن نطرحها فيما يأتي: 

1/ تصدّتِ الكاتبةُ لفنّ جديد بعد تجربة (الشعر والرواية) ألا وهي (القصّة)، دكتورة أطفال تخرجُ من جلدها، لتكونَ طبيبةً وشاعرةً وروائيةً وأخيراً وليس آخراً قاصّةً. 

لقد سبقها في هذا التنوّع عدد من العمالقة منهم (ليوناردو دافنشي) صاحب اللوحة الكونية (الموناليزا) الذي عُرفَ بتجاربهِ وبحوثهِ العلمية الصرفة. والكاتب الروسي(تشيخوف) الطبيب والكاتب القصصي والمسرحي. والدكتور(علاء بشير) العراقي طبيب الجراحة والتجميل وهو فنّان تشكيلي.. وغيرهم الكثير، بل اذا عُدنا الى التاريخ الاسلامي لوجدنا أغلب علماء المسلمين موسوعيين يكتبون ويبحثون في علومٍ مختلفة. إذنْ فلا نستغرب من طبيبة أطفال أن تغورَ وتُبدعَ في فنونٍ متنوّعة وتجيدُ بل وتُبدعُ فيها. هذا في الجانب المهني والعملي والفني والأدائي. أمّا من الناحية الفنية والأسلوبية فنلاحظُ أن الفقر الروائي أو القصصي العربي في عموم بلادنا العربية لم يكن فقراً لغوياً أو فنّياً أكثر من كونهِ ضعف وخوف في مواجهة الذات أولاً ومواجهة المجتمع الذي يعيشهُ –المجتمع العربي المعقّد الذي يعيش ازدواجية التفكير-، والخوف الأكبر في مواجهة العالم في تناول قضايا التي يعيشها الناس ويتأثرون ويعانون منها، وخصوصاً أن منطقتَنا تعيشُ منذُ عقودٍ صراعاً عرقياً ودينياً وعسكرياً واجتماعياً، منطقةٌ في حالة غليان دائم، مقابل عالمٍ يتطوّرُ في سرعةٍ مهولةٍ وحدوثِ طفرات وقفزات في التقدم العلمي التقني، والذي من خلال ذلك يتمكن المبدع الكاتب بكل الفنون أن يتبنى هذه أو تلك من المواضيع التي تمثّلُ مادّةً دسمةً ؛ وهكذا نرى أن الكاتبة (د. فاتحة مُرشيد) يُسجّلُ لها جرأتها في طرح مواضيع الساعة وما تعيشه مجتمعاتنا العربية عموماً وما تعانيه، باسلوبٍ فنّي وحداثةٍ لتنقل واقعنا ليس الى المتلقي العربي فحسب بل الى الانسان في عموم الأرض. 

2/ تعاملتْ مع بعض قصصها في بنائها وفق شخصيتها الطبية، فكانت الأمراض والفيروسات والعلاج النفسي حاضرين في القصة وشخوصها. 

3/ أغلبُ القَصص التي كتبتها الكاتبة، جعلتْ الراوي منْ يتحدّث عن نفسه، ولم تضعْ في بعض قصصها أسماء لشخوص قصتها لتترك المتلقي أن يعيش القصة ويكون هو راويها ومحرّك أحداثها. 

4/ ثماني قصص تحدّثت عن حال المرأة العربية بكل صورها وحالاتها؛ المتقلبة المتنوّعة . 

5/ أرادتْ أن تقدّمَ للمرأة العربية رسالةً في أن تحرصَ على بناء ذاتها وأن تعتمدَ على ذاتها وأن تتمكن من الاستقلال المادي الاقتصادي أولاً، وأن تستقلّ بقراراتها وألا تكونَ تابعاً للعادات البالية والتقاليد التي تدمّر حياتها، بل وهي رسالة للرجل أيضاً بأن يشعرَ هناك ركن أساس في الحياة لا تستقيم سعادته بل ولا وجوده إلا بوجود امرأةٍ قويّةٍ قادرةٍ على اتخاذ القرار. 

6/ المكان ودوره وأثره في المشاعر والحياة والعمل، حيثُ الصورة في عقل العربي بأن الحياة والعمل والسعادة هي خارج بلده، وأن البلدان الباردة هي التي تتقدم وتتطور، في حين أن أغلبَ العرب الذين هاجروا وتغربوا لم يحصدوا ما كانوا يحلمون بهِ بل عانوا أكثر مما كانةا يعانون في بلدانهم ويظلّ الحنين أقوى من الحُب..!!    

الملحق الثقافي لجريدة كواليس الجزائرية 

الخميس 26 يوليوز 2018، العدد 2409 

Leave A Comment

Recommended Posts