د. فاتحة مرشيد…الكتابة من أريكة فوق قوس قزح
يأتي الشعر، عندما نكون. وعندما نحتاج إلى مطلق يلغي شعورنا بالخوف من الارتطام بالنيازك. نكتب الشعر لنصير بموازاة العطر. وهذا عمل يقول عنه بودلير أنه هواية مجنونة. “ولكنه حتما جنون للعقل” أو هكذا أعلقُ على رؤية صاحب “أزهار الشر”. والمرأة الشاعرة، شيء آخر فوق مستوى سطح البحر، فهي عندما تتجاوز لحظة الفزع من آدمها آلميهم تتحول إلى رائية لكشف كل ما يغيب وغاب عنا.
والمرأة الشاعرة “ميتافيزيقيا” تدلنا ما تدلُهُ مناجم الماس لذاكرة المعاول والمنقبين الفقراء، لهذا يكاد شعر النساء أن يكون “مناجم لولادة رغبة لصناعة تكوين” كان حكرا لذكورة الشعر.
أضع هذا البيان المبتسر وأنا أعيد متعة قراءة “روح الماس هذا” في أعمال شعرية كتبتها فاتحة مرشيد.
امرأة تمتهن حرفة الطب. وتخلق جملة الشعر “وما بين المهنة والخلق” تتساقط أنهار القصائد. وعيا روحانيا جميلا لجمل تعرف كيف تفكر وكيف ترسل ضوءها. كيف تحيا، وتموت، وتولد، وتذهب بقراءة هذا الوعي إلى ما نعتقد إنه شعر يقف عند حدود اللذة والتصور، وصناعة ما يقول عنه ريلكه “مطر من بين الكلمات هجينه الورد”.
فاتحة مرشيد..قد تكون الذاكرة المغاربية تعيها كعالم يطلق رصاص الفتنة إلى قراءتنا عبر مدونات مطبوعة بذوق صالون ذاكرتها المثقف وروحها التي تمسك المشهد برعشة أصابع الغيوم لترينا ومضات لا تحصى من لحظات الكون..
كتب لها عناوين مسماة بإيعاز من قلب وليست من ذاكرة وهي على التوالي:
– إيماءات (شعر) دار الثقافة- الدار البيضاء 2002
– ورق عاشق(شعر) دار الثقافة- الدار البيضاء 2003
– ورق عاشق(حقيبة فنية) بالاشتراك مع الفنان أحمد جاريد- الرباط 2003
– تعال نُمطر (شعر) دار شرقيات القاهرة 2005
هذا يعني أن فترة ثلاث سنوات من عمر الشعر في حياة د.فاتحة مرشيد، تعني أربع ألواح مؤسطرة بشغاف أنثى. وذلك في قياس المنتج بالنسبة لهاجس امرأة تعمل في مهنة الطب أمرا جديدا، وجميلا، وتجاوزا على الهم الاجتماعي، والأسري، والتقليدي. وقد توعزه رؤاي لما قرأت لفاتحة. أنه الرغبة لتكوين عالم آخر غير ما أرادته لنا الحياة “المهنة، الزوج،الأولاد، المطبخ”. يعني أن فاتحة مع تلك المفردات ذهبت بحياتها إلى ضفة التأمل وصناعة المشاكسة الروحية، رغبة منها، لإضافة أخرى لمشهد الثقافة الجديدة لتراب بلدها الوطني، ومن يقرأ كتب الشاعرة مرشيد يكتشف هذا جيدا…
في صالونها، الصغير، والأنيق بعيادتها الهادئة، حيث يشع فيها هواجس البحث عن شفاء الطفولة حيث نالت فيه د. فاتحة مرشيد دبلوما، كان لنا محاورة لم تحددها فاصلة زمنية مسبقة، ابتدأتها من غير أن ألملم مفردات الشعر المنتشرة تحت أجفانها الضاحكة.
– س: د.فاتحة مرشيد وأنا أقلب غواية الشعر في كتابك “أي سواد تخفي يا قوس قزح” مسكتني من داخلي رؤيا شعرية خطتها يدك، وحتما هي قبل هذا خطت بحبر تجربة الوجدان الذي فيك، يقول النص:
كيف أسرب جنوني
لمن يحترف الجنون؟.
السؤال…تلك “الكيف”…هل هي رغبة في البحث عن الشعري المختلف لتصلين إلى حلم ما. أم أنك يا فاتحة تعرفين كيف يفكر المجانين؟.
_ج: “أي سواد تخفي يا قوس قزح” هو عبارة عن مذكرات لوحة تشكيلية تتحدث عن نفسها وعن الفنان الذي، وهو يبدعها، يسرب من وعيه ولا وعيه في رحمها. عن علاقة العشق بينهما بكل ما يحمل العشق من تناقضات، من تطرف، من سحر ومن جنون.
الفنان التشكيلي محترف للجنون والعاشق محترف للجنون. وعندما أتحدث عن الجنون هنا فأنا لا أعني المرض العقلي _ وإن كان تاريخ الإبداع حافل بحالات عانت من اضطرابات نفسية وعقلية_ بل الجنون الخلاق الذي يجعلك تسمو إلى عوالم أبعد ما تكون من العادي والملموس، عوالم تطفو بين الحقيقة والخيال. ومن هنا جاء السؤال كيف؟ كيف أسرب جنوني، لمن يحترف الجنون؟.
هل هناك رغبة في البحث عن الشعري المختلف؟ بالتأكيد، فالإبداع إضافة و”أي سواد تخفي يا قوس قزح” تجربة جديدة، تسعى للكتابة من داخل اللوحة. وقد اعتدنا على كتابات من خارج اللوحة تعكس نظرة المتلقي كطرف ثالث في عملية الخلق.
ديوان “أي سواد تخفي يا قوس قزح” يحمل في شذراته مقاربة فلسفية حول التشكيل و الإبداع عموما. فما قلته بلسان اللوحة قد ينطبق على القصيدة. ويأخذ هنا سؤال آ خر كل عمقه: من يكتب من ؟ ومن يرسم من؟.
– س: هذا الكتاب “أي سواد تخفي يا قوس قزح؟”..والمطبوع مع الترجمة الفرنسية له (للأستاذ عبد الرحمان طنكول) في ذات الطبعة هل جاء من رؤى نصك القائل فيه:
لا تعتذر عن خطأ
كان سبيلي إليك.
أقصد سيدة مرشيد، هل الكتاب جاء من رغبة متوقعة للوصول إلى شيء نتمناه، أو نهوى الوصول إليه، فهو في كل رؤاه، هناك آخر تتنوع أشكاله نرنو إليه ونريد اكتشافه، أرجو أن يزاح التردد عن كل ما كنت تريدينه من هذا الهايكو المكتوب بطريقة أنيقة وواعية في هذا الكتاب.
_ ج: عملية الإبداع عملية معقدة، وأنت لا تقرر متى تكتب ولا متى ترسم، وغالبا ما تنساب منك الألوان أو الحروف حين لا تنتظرها. وهنا يختلط مفهوم الخطأ بالصواب، وقد يوصلك خطأ أو ما اعتبرته خطأ لصواب وقد يكون ما اعتبرته صوابا في صميم الخطأ.
لهذا تقول اللوحة لفنانها:
لا تعتذر عن خطأ
كان سبيلي إليك.
أما، هل الكتاب جاء رغبة غير متوقعة للوصول إلى شيء ما نتمناه؟. فالكتابة عموما تخفي رغبة للوصول إلى شيء نتمناه، قد يكون الوصول إلى ذواتنا، أو إلى الآخر، أو إلى المجهول. ففي كل خلق اكتشاف لمخلوق. تماما كما نكتشف ساعة الولادة ملامح ما جبل من أرحامنا.
أعتقد أن الأصعب في عملية الولادة هو الغموض. وما المخاض إلا تعبير عن هذا القلق الذي يجتاحنا أمام كل ما هو غامض فينا.
– س: في تقديرك ماذا تشعر المرأة حين تنتج “نصا” وليس بالضرورة قصيدة ولو أني أرى كما يرى السومريون “المرأة التي تكتب القصيدة، يعني صباح في معبد”؟.
_ ج: أظنها تشعر بما يشعره كل مبدع امرأة كان أم رجلا… تشعر أنها ترقى إلى أعلى درجات الإنسانية.
وحده الإنسان دون كل الحيوانات الأخرى قادر على الخلق والإبداع…كلما أبدع أكثر كلما تسلق سلالم السمو التي تقربه من الله. شأنه في ذلك شأن الحب وشأن العبادة. فالإبداع فعل حب بمعنى العطاء، عطاء الإنسان من ذاته. ولهذا تبقى اللحظات التي ينتج فيها المبدع “نصا” من أقوى لحظات الاكتمال التي تغدق بها الحياة عليه.
– س: وكتابك الشعري، يرى النور، هل تتأملين عينيك في المرآة، وهل تشاهدين ما تفعل أصابعك؟ أعني كأم وطبيبة تعنى بالطفولة. صفي الهاجسين…ولادة طفل..وولادة كتاب.
_ ج: كبير هو التشابه بين عملية الإبداع وعملية الولادة. نحبل ونتساءل كيف سيكون هذا الجنين الذي يكبر في أحشائنا، يملأنا زهوا وسعادة و يؤرقنا في الآن ذاته؟ جميلا أم قبيحا، سليما أم معوقا؟ وكيف سيستقبله الآخرون؟ ذاك أننا نحتاج إلى إعجاب الآخرين بأبنائنا…أليسوا امتدادنا الذي نريده بهيا؟.
هكذا هي أعمالنا الإبداعية أبناء نرغب فيها. نكتشفها بعيون الآخرين. سرعان ما تستقل عنا لتصنع لها حياة خاصة.
– س: في ثلاث سنوات أصدرت في كل سنة كتابا تقريبا، لمن توعزين هذا الثراء في المنتج، لرغبة بالشهرة، لتدوين ما فات، أم أن الشعر صنعته الآلهة في هذه “اللحظة العمرية” قصيد السنوات الثلاث أم أنك تشعرين ، أن عليك أن تثبتي للآخر، أن ما ذهب لن يذهب سدى…أرجو أن تكوني شجاعة.
_ ج: يمكن القول أنني خزّنت… وخزّنت كثيرا قبل أن أقرر الانكشاف أمام الآخر. وربما لهذا أجدني أكتب بنهم من جاع طويلا. أسابق الزمن الذي يركض خلفي كحصان جموح. طبعا، عامل الزمن كان دائما موجودا.. وعيي به هو الذي أصبح أقوى. وقد عبرت عن هذا في الإيماءات:
” ككل الصبايا
أخفيت تحت القميص
كتاباتي
كبعض عرائي
وعند انفلات الصبا
فقدت حيائي…”.
لكن هذا لا يعني أنه يكفي أن نقرر الكتابة لكي تستقيم لنا. أظن الأفكار تختمر داخلنا، تنضج كفاكهة لتسقط منا مستجيبة في ذلك لقوانين الجاذبية.
ولهذا قد ننتج الكثير في وقت وجيز وقد يلزمنا عمر لنشر كتاب واحد. وما يهم في الكتابة ليس هو كم الكتب التي نخلفها بقدر ما تهم قيمتها الأدبية. ونجد في التاريخ كتابا خُلّدوا بواسطة كتاب واحد أو نص واحد.
هل علي أن أثبت للآخر أن ما ذهب لن يذهب سدى؟. لقد قضيت سنوات من عمري وأنا أحاول أن أثبت للآخرين. وتوصلت، بعد المصالحة مع نفسي، أن الآخر الذي علينا إقناعه هو أنفسنا لا غير.
– س: أنا قرأت كتاب “ورق عاشق” الذي وشمتيه، بماسة من حداثة بورخيس التي ترى الحكاية الجديدة إطارا لعالم مفترض وعلينا أن نجده حتى لو كنا عميانا…وزيّنت روح القصائد لوحات الفنان أحمد جاريد.
هل ترين في العشق وسيلة لصنع حكاية جديدة تبعدنا عن رتابة السماع لأسطورة قيس المجنون، ورامبو، ولإيقاعات قباني..هنا في كتابك ثمة حداثة للعشق والعاشق..هل هذا تغريد خارج السرب، أم ماذا؟ لاسيما وأنت تقولين فيه:
لو أكشف عن شرخ اللواحظ
بصدري
لعجبوا من قسوة صبري؟
– ج: “ورق عاشق” محطة مهمة في مساري: عانقت فيها التشكيل الذي فتح لي آفاقا جديدة وعلّمني كيف أغتني من عناصر إبداعية أخرى. كما عالجت فيه العشق كعاطفة إنسانية سامية لا تقف عند حدود المذكر والمؤنث مانحة الكلمة للآخر بداخلي- بحكم أننا نحمل الجنسين معا- ومن ثم جاءت قصيدة ورق عاشق بصيغة المذكر.
لكلّ زمان عشقه الذي يعكس تاريخه ونوعية العلاقات الإنسانية المتشكلة داخله. لو تسنى لقيس وليلى أن يبعثا من جديد ويعيشا في زمننا هذا لتبادلا الرسائل عبر الانترنيت واستفادا من الهاتف النقال وكان عشقهما عشقا حداثيا.
أنا أكتب عن العشق من خلال تجربتي الخاصة، ونظرتي الخاصة للعلاقات الإنسانية، علما أن كل حكاية مهما كبر وجه الشبه بينها وبين حكايات أخرى، تبقى في جوهرها متفردة.
– س: هل كان كتاب “ورق عاشق” بحثا عن مفقود، وربما ليس مفقودك أنت؟ ربما الآخر الذي يقرأ كتبك. أينما كان.
– ج: ورق عاشق كان اعترافا بالآخر بداخلي وليس بحثا عن مفقود.
كان محاولة لفهم ذاتي عبر الآخر. بحكم أن “الآخر هو ما يشكل وساطة بيني وبين ذاتي أي أنني عن طريقه أكتسب وعيي بذاتي” على حد قول سارتر.
الكتابة بصيغة المذكر حررتني من قيود يفرضها المجتمع على الأنثى…وبهذا صالحتني مع الأنثى. قد يبدو ما أقوله طاعنا في التفلسف لكن لولا كتابتي ل”ورق عاشق” لما استطعت أن أمر ل “تعال نمطر” حيث الأنثى نجحت في البوح والتعبير عن ذاتها بكل حرية وقد تخلصت من قناع الرجل.
لم يكن من الممكن أن أمر مباشرة من ديوان ” إيماءات” إلى ” تعال نمطر”. فالبوح يلزمه نضج ويلزمه المرور عبر مراحل للنمو.. تماما كمراحل تعلم المشي أو الكلام عند الأطفال.
– س: هل ترين أنك موجودة داخل المشهد الثقافي بشكل مضاء جيدا؟
– ج: في حقيقة الأمر، الضوء المسلط من الخارج لا يعنيني، بقدر ما تعنيني الظلال التي تتعرّش بداخلها القصائد. وتبقى الإضاءات الداخلية أصدق طريق للوصول إلى الآخر. أما مسألة تقييم مساري الشعري داخل المشهد الثقافي فأعتقد أنه أمر موكول للمدونة النقدية.
– س: هل إنتاج كتاب، يساوي أنتاج مخترع لعطر جديد، من غير مناخات الورد؟
– ج: قد أفاجئك لو قلت لك أن كل ديوان من دواويني مقرون برائحة عطر معين. ذاك أني أغير نوع عطري كل سنة تقريبا الشيء الذي يجعله يتزامن مع كتاب جديد. يذكرني هذا بممثلة أجنبية، لا أذكر اسمها، كانت تغير نوع عطرها في كل فيلم حسب الشخصية التي تتقمصها. الفرق بيني وبينها أنني لم أتعمد هذا.
لنعد إلى سؤالك.
أعجبتني هذه الجدلية الناعمة بين الشعر ومختبر العطر، وأظن أنه على كل عمل إبداعي جديد أن يحمل وزر عطر جديد لأن التكرار عدو الإبداع.
بل وكما قلتَ، أن يكون إنتاج كتاب جديد بمثابة إنتاج مخترع لعطر جديد ينمّي فيه الكاتب حاسة الشم لديه. هذه الحاسة التي كثيرا ما يهملها البشر في حين يعتمدها الحيوان في علائقه مع الطبيعة ومع الجنس الآخر من نفس النوع ساعة الولع.
نحن نحتاج لكل حواسنا لسبر أغوار القصيدة، نراها، نلمسها، نسمعها، نتذوقها، ونشمها: واحدة برشاقة عروس البحر وأخرى تعاني من السمنة…
واحدة لها نعومة الحرير وأخرى خشونة يد فلاح ساعة الحصاد… واحدة تنقل إليك خرير الماء وأخرى دوي المدافع… واحدة تنازع العسل بحلاوتها وأخرى تخنقك مرارتها…واحدة لها رائحة الدم وأخرى رائحة الورد…وهكذا.
وكما العطر يأخذ رائحة مختلفة باختلاف رائحة الجلد الذي يستقبله. تأخذ القصيدة أبعادا مختلفة باختلاف المتلقي.
_ س: كيف حال “مداواة الطفولة مع الشعر”. وأنت تتأملين طفلا لتداويه من السعال مثلا، هل تتخيلين قصيدة وسط عينيه؟.
_ ج: أتعلم؟ أجمل قصيدة هي ابتسامة طفل توفقت في علاجه.
عالم الطفولة طافح بالشعر، أليس الشعر هو الدهشة الأولى؟.
كتبت في “تعال نمطر”:
“يلزمني عمر لأستعيد طفولتي
تلزمك طفولة لتكبر بقلبي
ويلزمنا موت لنحب بجدارة”.
قد يكون في اختياري لطب الأطفال رغبة في الثأر لطفولتي الخاصة.
وقد يكون في علاجي لهم محاولة لترميم طفولة تنقصني.
كل نظرة طفل يتألم تعيدني لوجعي الأول…توحي إلي بقصيدة.. نكاية في كل ما يجهض البراءة فينا..
_ س: في آخر كتبك الصادر عن دار شرقيات في القاهرة “تعال نمطر” دعوة لإباحية صوفية، يومشها تقديس العلاقة، لآخر هو المكمل الدائم لنا، دعوة جريئة، لصناعة المطر…أسألك إن كان هاجس الكتاب امتدادا لكتب الأمس. أم أن الشعور باللحظة الجديدة هو من صنع ” تعال نمطر”؟.
_ ج: كل كتابة هي امتداد لما سبقها وفي نفس الوقت هي وليدة اللحظة.
ونحن نركب قطار الكتابة نمر عبر محطات، نقف في إحداها، نكتشفها، نصنع فيها ذكريات، نغتني بها، ونمر إلى التي بعدها وهكذا… هناك محطات لا نصلها إلا بعد سنوات من السفر في دواخلنا.
“تعال نمطر” نداء للحب وللتواصل في زمن نعاني فيه من الجفاف الروحي، الوجداني والعاطفي. رغم كونه زمن التواصل ومحو الحدود. الإنسان منا يحتاج قبل كل شيء لتواصل روحي…لإشباع روحي. وحده الحب في استطاعته تخليص البشرية من كل القبح والعنف الذي تتخبط فيه.
_ س: هذا الرومانس الشاسع لروحك الشعري، هل يظل باق إلى ما لا نهاية، وأنت أراك في تعال نمطر تمسكين بأذيال آرثر رامبو” وتقولين له: “إلى آرثر رامبو الذي رحل بعيدا بحثا عن نفسه وتاه عنها”. ما الذي يجمعك بهذا الإهداء لتكتبين هذه القصيدة؟.
_ ج: سيبقى آرثر رامبو “عقدة الشعراء، وعقدة كل كاتب أيضا، وعقدة كل من يتوسل أي مجد صغير من الكتابة” كما قال شربل داغر في تقديمه لرسائل العابر الهائل بنعال من ريح.
أن تتخلى عن الشعر يعني أن تتخلى عن الحياة. وفي كل كتابة بحث عن الذات. و”رامبو لا يسحر الشعراء إلا بقدر ما يبلبلهم أيضا” على حد قول شربل داغر كذلك.
رامبو يستفز فينا سؤالا وجوديا…سؤال ماهية الشعر والشعراء. ويبعث فينا الرعب من غذ قد يتخلى فيه الشعر عنا.
كل شاعر منا يحلم بالرحيل إلى أقاصي الروح والجسد.. بالتخلص من كل الإكراهات الاجتماعية ومعانقة الريح. وهنا يكمن سر إعجابنا برامبو. وفي نفس الوقت، نحس بالشفقة على شاعر”عاش في زمن القتلة” كما قال هنري ميلير. شاعر، كان قبل كل شيء إنسانا معذبا يسعى إلى طمأنينة لم يمنحها له، لا الشعر ولا الرحيل.
القصيدة المهداة إليه ” ألوان الخريف” ولدت بباريس. وهي تعبّر عن شيء مشترك بيننا جميعا كبشر: هو ضرورة التخلي، في لحظة من لحظات حياتنا، عن شيء أو شخص نحبه، حتى نستطيع المضي إلى الأمام. ملبين في ذلك نداء الحياة. معانقين “فلسفة الاستغناء” عن ما يبدو ضروريا ومصيريا، للذهاب أبعد نحو تخوم وضفاف أخرى.
_ س: دفعت إلي لأقرأها مخطوطة من الدمع اسمها ” يوميات الحزن بجدة”. وأنا كتبت مقدمتها منساق إلى حزن التجربة التي فيك نتاج ” رحيل الوالد رحمه الله” أثناء الحج إلى بيت الله. أن أقرأ القصيدة وأتخيل عينيه وهي تنظر حقائبك القادمة من الدار البيضاء لتحتضن فيها ذكريات البيت، والرغبة بتراب أزلي يتوسده في جنته المغربية. ولكنك أيضا في النص، كنت متمردة ومؤنبة لحظة الاستقبال والتعامل في المكان الذي أغمض الوالد فيه أجفانه للمرة الأخيرة.
لمن توعزين هذا، لاختلاف التقاليد، أم لتلاقي الحضارات، أم لأمر آخر؟
_ ج: ” يوميات الحزن بجدة” كانت تعبيرا عن تجربة مريرة عشت فيها العجز مزدوجا. عجزي أمام جبروت الموت. وعجزي كامرأة أمام مجتمع يعتبرني قاصر…ليس لي الحق في توقيع إذن بالقيام بفحوصات بواسطة الأشعة _ رغم كوني طبيبة _ لوالد كان يصر على تعليم البنات قبل الأولاد. ولا الحق في توقيع أوراق دفنه وقد كنت وحيدة معه هناك.
هو الذي علّمني أن أرفع رأسي وأفخر بكوني امرأة… كنت عاجزة أمامه… لكوني امرأة.
_ س: في نصك ” يوميات الحزن بجدة” صعد فيك كبرياء الشعر لحد التفلسف، هل كنت حزينة ومغتاضة جدا لتقولي هذا:
“يقول الجمركي
من سيستلمك يا حرمة؟
قلت لنفسي
ما استلمتني يوما
غير نفسي”.
_ ج: طبعا، كنت حزينة ومغتاضة ولكن ليس لهذا السبب كتبت هذا بل لأنه بكل بساطة ما حصل في مطار جدة. حيث لا يسمح لامرأة بالدخول بدون مصاحبة رجل أو أن يستلمها رجل. وما هذا إلا بعض فيض من غيض.
_ س: د. فاتحة مرشيد. هل تريد أن تكون شاعرة أم طبيبة؟
- ج: أريد أن أكون طبيبة في شعري حتى أجعل من كلماتي بلسما لروح القارئ. وأن أكون شاعرة خلال ممارستي لمهنتي حتى لا أفقد إنسانيتي وأبقى قريبة من روح المريض.
_ س: هل كانت مفاجأة أن تأتي إليك هكذا نمط من الأسئلة، من محاور جاء من الشرق بسفن السندباد، ليقرأ كتبك في ليلة ويفهم عنك الكثير…أقصد عالمك الشعري؟.
– ج: كانت من أجمل المفاجآت. كم حلمت أن أسافر إلى العراق لأرتوي من نبع الثقافة والجمال. ما حسبت العراق يأتيني يوما في هيئة مبدع يحاورني بكل ذكاء يقرأ ما بين السطور ويجعلني أحب الشعر أكثر وأومن من جديد أنه “فضيلة العرب”.
_ س: هل ترين أنك تمتلكين شيئا من شاعرة قبلك، وليس بالضرورة من المغرب. وإن كان هناك شيئا من شاعر، قولي.
_ ج: سأعود إلى مقولة لبورخيس يقول فيها: “أنا كل الكتاب الذين قرأت لهم، كل الناس الذين قابلتهم، كل النساء اللواتي أحببت…”
لاشك أنني أمتلك أشياء من آخرين أكانوا شعراء أم روائيين… أم أناسا عاديين ولّدَ اصطدامي بهم شرارة ندعوها “الإلهام”.
وإن كانت الكتابة عملية فردية، تعكس بالأساس ملامح الكاتب الخاصة والملامح الجماعية التي تسكنه، فهي كذلك سليلة كتابات سبقتها. كل كتاب نقرأه يضيف لنا شيئا. ومن الكتب ما قد يغير مجرى حياة بأكملها.
_ س: أنا أرى دائما أنني حين أجالس امرأة تكتب الشعر بطريقة الرومانس الملون، الروحاني الذي يقود صداع الرأس إلى الرحيل ويتحول إلى لحظة موسيقية…أشعر بنوع من الفخر لهذه اللحظة..وحين شعرتها معك، بماذا تردين؟
_ ج: أقول شكرا لك، أولا. وأقول ثانيا، أن الحوار يتطلب طرفين اثنين. وكي يوَلّد موسيقى لابد من عزف منسجم على أوتار الصدق.
وما الأجوبة سوى انعكاس للأسئلة على صفحة ماء القلب.
_ س: كلمة أخيرة…هل كان الشعر هو العمر..أم أنه لحظة نكتشف فيها أنفسنا. وهل العناوين الجديدة تأتي لا حقا.
_ ج: الحياة أكبر من الشعر ومن الحب ومن الإنسان. وكل لحظة نكتشف فيها أنفسنا أكثر هي لحظة شعرية سواء دوّناها أم لا.
أما عن الجديد، فما يمكن أن أبوح به الآن هو أنه سيكون في مجال الرواية.
آخر المطاف، إن فاتحة مرشيد الشاعرة، الطبيبة، قالت ما أعتقده أنه تدوين لكتاب جديد. فهذا الحوار حرر في أعماقها أشياء كثيرة، وجعلها ربما لأول مرة تشتغل على فهم العالم بطريقة الإدراك الشعري بعيدا عن إشكاليات اليوم والمهنة. فقط كنت معها شعر. فقط ولا غير الشعر، وذلك ما يدعوه أفلاطون أبدا ” الفهم الحقيقي لوجودنا”.
الملحق الثقافي لجريدة “العلم“، 21 شتنبر 2006 العدد 20530
www.jehat.com
صحيفة الحقائق: