لم يكن مسار فاتحة مرشيد الإبداعي محض صدفة نقلتها من عوالم المبضع والمستشفيات إلى عوالم الكتابة وأسرارها، فقد ترعرعت الطبيبة والشاعرة والروائية في بيت رجل تعليم كان له الأثر الكبير في تكوين شخصيتها، فالوالد الذي كان مفتشا بقطاع التعليم حرص على إنشاء مكتبة بالبيت تضم جميع الكتب ومن مختلف الأجناس الإبداعية (شعر، قصة، رواية، فقه)، حيث لم تكن لحظتها أية مراجع بالفرنسية بالمنزل، لما يحمله الأب من تعلق وجداني عميق باللغة العربية التي حاول غرس شتيلتها في أبنائه منذ الصغر.
كان الأب صارما في تعليم أبنائه، وحريصا على تعويدهم على القراءة التي كانت السفر الممكن الوحيد لحظتها، بل كان يعتبرها سلاحا في معركة المستقبل، خاصة لفتاة لا سند لها غير تأمين مستقبلها بالمعرفة والعلم.
قرأت فاتحة مرشيد كتبا كثيرة في طفولتها، بل أحيانا كانت تقرأ أشياء أكبر من سنها، وفي مراهقتها كانت تقرأ سرّا كتب الدكتورة نوال السعداوي التي تعتبر أنها مدينة لها بالكثير لأنها فتحت لها طاقة نور جعلتها تؤمن بأنه يمكنها أن تحقق الحلمين معا: حلم أن تصبح طبيبة وهو الحلم الذي صاحبها حتى في لعبها مع الأطفال حيث كانت تتقمص دائما دور الطبيبة، وحلم أن تكون كاتبة وتحقق رغبة دفينة وجارفة في رؤية توقيعها يوما على أحد الكتب: ” نوال السعداوي جعلتني أدرك بأنه من الممكن أن أكون الاثنين”.
فالكتابة كما القراءة ملأت الفراغ الذي كانت تحسه حين تؤوب إلى نفسها، وتدون كل تفاصيل حياتها في مذكرة صغيرة تبثها كل الأسرار التي كانت لطفلة كانت تتعايش مع ألم الفقد تحت ضوء النهار، لكنه كان يستقيظ ليلا ينزّ وينزّ، وما من وسيلة لهدهدته غير الكتابة التي تسمح بالبوح في سرية تامة، بوح لم يكتب له أن يتعرى أمام الملأ إلا في 2002 تاريخ صدور أول ديوان “إيماءات”.
كانت فاتحة وهي تجس نبض أطفالها بالعيادة، تجس نبض روحها، فكانت هذه العيادة بفضائها المفتوح والمنفتح على روائح الفن والإبداع، وبما تمنحها من عزلة يحتاجها المبدع، فرصتها للسفر والانطلاق في عالم الكتابة. فجرت فاتحة روحها تفجيرا لتتوالى الدواوين الشعرية محملة بالحنين.
“طبيعة تخصصي (في طب الأطفال) وضعتني بين مكونين أساسيين للإبداع: الألم (كمحرك لما ينزوي بأغوارنا) وعالم الطفولة الطافح بالتلقائية.. لعالم الطفولة فضل علي، تعلمت منه الكثير، تعلمت كيف أنصت للطفلة بداخلي كيف أستعيد دهشتها الأولى.. وقد لزمني عمر لأستعيد طفولتي.”
تقول فاتحة عن بداية تجاربها الابداعية: ” بدأت قصتي مع الكتابة منذ الصبا الأول. كانت ملاذي الذي انتشلني من حالة الضياع . بدأت في سرية تامة… دامت فترة السرية طويلا.ثم جاءت دراسة الطب بثقلها وبكل ما تتطلبه من تفرغ لتصبح خلال سنوات طوال أولى أولوياتي.لكن ممارستي للطب، كمهنة، ومواجهتي اليومية للألم والمعاناة البشرية جعلتني ألمس هشاشة الكائن من جهة وتخوم الطب من جهة أخرى.. جعلت حاجتي أكبر لغذاء روحي.. لوهم بالخلود..”
بعد وفاة والدتها كتبت “رسائل إلى أمي”، و أصبحت الكتابة من يومها حاجة ملحة وعلاجا نفسيا لاستعادة توازنها وذاتها المفتقدة وسط كل هذا الضجيج الذي يسمى الحياة.
خلال سنواتها الأولى بالعيادة، وخاصة بعد انشغالها بالبرنامج التلفزي، عاشت فاتحة فترة ضغط وإرهاق وأحست أنها ابتعدت عن جوهر روحها. ولتعيد توازنها كان عليها الاختيار بين الشهرة والكسب المادي أو الانتصار لجوهر ذاتها، فقررت أن تربح نفسها.
“استعادتْ الكتابة مكانتها في حياتي كشيئ ضروري لتوازني، وبدأتْ مع كل كتاب جديد تستقرّ أكثر وتطلب وقتا أكثر، وهكذا وجدتني أقتطع من وقت الطب لصالح الأدب. كان علي أن أضحي لأن الإبداع لا يرضى بغير دم المبدع وكيانه”
تتذكر فاتحة أول مرة قرأت الشعر علنا. كانت خلال اشتغالها بالقناة الثانية وكانت المناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس القناة وطلبت منها نسيمة الحر تقديم كلمة بالمناسبة أثناء الاحتفال الذي خصصته القناة لهذه الذكرى، فكانت عبارة عن مقطع شعري عن “عين الكاميرا” ومشاعرها وهي تقف أول مرة داخل الاستوديو أمام الكاميرا، وتلك كانت أول مرة يتعرف عليها المشاهد شاعرة بعد تعوده عليها طبيبة من خلال البرنامج.
لم يكن هاجس النشر حاضرا عندها بشدة، رغم إلحاح الاصدقاء ممن اطلعوا على بعض قصائدها وشجعوها على إطلاق هذه التجربة من سجن العتمة، لكنها كانت مترددة وخائفة. كونها قادمة من مهنة ينزع عنها الآخرون كل علاقة بالإبداع والأحاسيس.
تتذكر فاتحة أنه في إحدى المرات عندما اطلع صديقها الشاعر صلاح الوديع على مسودة ديوانها الأول “ايماءات”، طلب منها التعجيل بنشره ووعدته بالتفكير لكن عند زيارته لها بعد ذلك بالعيادة وسؤاله عن سير أمور الديوان، أخبرته أنها تراجعت عن الفكرة فغضب غضبا شديدا وغادر العيادة مستاء. بعدها سيطلع عليه الصديق المختار بنعبدلاوي وستطلب
منه أن يدلها على شاعر لا يعرفها لأنها كانت تريد رأيا موضوعيا ومحايدا. نصحها بالذهاب إلى الشاعر حسن نجمي بمكتب جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بالرباط، لكونه شاعرا ورئيس اتحاد كتاب المغرب، ولن يجامل أحدا على حساب قيمة الشعر، ففعلت.
تقول فاتحة عن هذا اللقاء “طلب مني الأستاذ حسن نجمي مهلة أسبوع لقراءة مسودة الديوان والرد علي، أحسست لحظتها أنني طالبة تنتظر نتيجة امتحان حاسم في مسارها. بعد مرور أسبوع عدت إليه ليخبرني أنه اطلع على تجربة ناضجة تستحق أن يتعرف عليها قراء الشعر”.
تسر فاتحة أنها للتأكد أكثر من حكم الشاعر حسن نجمي على تجربتها، طلبت منه التقديم لديوانها، فكان أن استجاب لطلبها دون تردد وكان الديوان الوحيد لها من بين دواوينها الذي صدر بتقديم من شاعر.
تحكي فاتحة عن هذه اللحظة “كان هذا الاعتراف من شاعر مثل حسن نجمي فاصلا في تجربتي ولم يكتب لي أن أشكره علنا قبل اليوم على تعامله الراقي . لقد كان جوابه مصيريا. لو كان رده سلبيا لربما تراجعت عن النشر، لكن كلماته حول الديوان منحتني الثقة في ما أكتبه. ثقة كنت بحاجة الى تعضيدها.”.
وكان أن صدر أول ديوان” إيماءات” عن دار الثقافة (2002) الذي وضع غلافه التشكيلي عبد الله الحريري الذي كان عبارة عن لوحة مكتوب عليها “الزهراء” بحروف متفرقة.
حرك الغلاف الذي اقترحه التشكيلي عبد الله الحريري عليها مواجعها وعزف على وتر حساس كان ينتظر من ينقره. “كان الحريري كمن سبر أغوار نفسي واختار دون تنسيق معي هذا الإسم بالضبط من قصيدة في الديوان باسم “الزهراء في ذكراها”. وكان ذاك اسم أمي. فتشبثت بأول اقتراح له دون إضافات أو ملاحظات”.
كانت “إيماءات” فرصة لتضميد الجراح وترميم الندوب الداخلية ، جاء الديوان ليعبر الماضي عن نفسه ولتصفي هي حساباتها معه هو الذي لم يكن رحيما بها.
“إيماءات” تجسد مرحلة من حياتي كان لابد أن أتصالح معها لأمضي إلى الأمام. لهذا كان لابد أن تنشر كما هي رغم تجاوزي لها من الناحية التقنية – جلّ القصائد كتبت خلال سنين مراهقتي – إذ اعتبرتها نوعا من العلاج النفسي.”
الحلقة 18: “الكتابة عريي الإنساني”، الاتحاد الاشتراكي، السبت/الأحد 20/21 يوليوز 2019، العدد 92122.