عبد الرحمان مجيد الربيعي
يبدو أن الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد (طبيبة الأطفال أيضا) لم تكتب الرواية بنزوة كتابة عمل روائي واحد وهو ما «يقترفه» بعض الشعراء، بل كتبتها لتتواصل فيها ضمن مراوحة ما بين الشعر (الذي كانت بدايتها الأدبية به) والرواية التي بين أيدينا العمل الروائي الثالث لها المعنون «الملهمات». وتجعل فاتحة مرشيد قارئ ابداعها الأدبي لا يعرف إن كان سينحاز للشاعرة أم للروائية؟ إذ أنها لم تكتب هذين الجنسين الأدبيين إلا لتبدع فيهما معا (حازت هذا العام على جائزة الشعر المغربي التي تمنحها وزارة الثقافة كل عام لأبرز عمل شعري مغربي وتوزع ضمن فعاليات المعرض السنوي المغربي للكتاب). إن قارئ روايات فاتحة مرشيد وقد سبق لنا تقديم عمليها السابقين في ثقافة «الشروق» تأخذه الانسيابية العالية في لغتها المقترنة بشعرية لا تسلب من الرواية أهمية الأفعال التي تقدم عليها شخصياتها وكذلك الحوارات المختزلة الدالة والثرية. وفاتحة مرشيد منشغلة بدواخل الانسان وانشغالاته العاطفية خاصة الفنان وهي بهذا تحاول ان تدير أحداث روايتها بأقل عدد ممكن من الشخصيات وغالبا ما تكون هذه الشخصيات من الفنانين والأدباء وفي عملها الجديد هذا ما «الملهمات» إلا أولئك النسوة اللواتي لا يستطيع الروائي ادريس بطل روايتها أن يكتب إلا بعد فعل الحب مع «ملهمات» يستبدلهن لتظل شعلة الالهام وقّادة. ويرتبط ادريس بعلاقة صداقة خاصة مع ناشره عمر المؤمن به وبإبداعه والذي كان دائما يستحثه على الكتابة لأن القراء يقدمون على قراءة أعماله وينتظرون جديده. الروائي ادريس «يترمّل» بعد وفاة زوجته التي لم يتزوجها إلا لأن علاقته بها كانت مثمرة إبداعيا، كانت أول ملهمة لأول عمل كتبه. أما الناشر عمر فكان متزوجا أيضا من أمينة بعد حب لكن له عالمه النسائي أيضا، ولديه شقة مموّهة يدخلها من مكتبه ولا أحد يعرفها أو يشاركه عالمها إلا صديقه الروائي (ستكتشفها أمينة بعد رحيله). يتعرض الناشر لحادث بسيارته وكانت معه احدى عشيقاته التي فارقت الحياة، أما هو فيظل في حالة «كوما» لا يفيق منها، وتبدأ الرواية بزوجته أمينة وهي تخاطبه (هل نتذكر هنا رواية ايزابيل الليندي مع ابنتها الغائبة عن الوعي؟) لا أدري! أنا تذكرتها مع الاختلاف بينهما. لكن ما هو أجمل في «الملهمات» التفاصيل، وعالم الفنانين في لهوهم وخياناتهم وأحلامهم ومعنى المرأة في حياتهم. تعيش مع أمينة في البيت نفسه حماتها وهي امرأة تعاني من الخرف المبكر بحيث لا تدري شيئا عن الذي حصل لابنها. تصف الكاتبة عمر الناشر ولعله من نوعية متفردة بين الناشرين بقولها: (لم يكن عمر كاتبا، كان حاضنا للكتب والكتّاب، كان صديقهم وناشر أعمالهم يتذوق الشعر الذي يكتبه الشعراء ويعيش القصص التي يخطها القاصّون، ويتماهى مع أشخاص الروايات، ناشر من طينة خاصة).
وكان عمر قد قدم لصديقه الروائي ادريس نصيحة في بداية تعارفهما مما ورد فيها (تلزمك روح فوضوية، باطنية أكثر، يخرج العمل من تلقائيته وطريقه التقليدي). لكن الروائي ادريس يقرّ مع نفسه: (أنا صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياتي). ويقرّ أيضا (فكل كتاب عندي مقرون بامرأة، كل فرحة عندي مقرونة بامرأة، وكل انكسار كذلك). ويصف ما يكتبه النقاد عن أعماله بأنه (كمن يكتب عن مسرحية معروضة على الخشبة جاهلين ما يجري في الكواليس). لذا كان قراره بأن تكون روايته الأخيرة التي وضع حزمة الورق أمامه ليبدأ كتابتها مختلفة لأنه فيها قرّر أن (يرفع الستارة الخلفية وأهديكم العرض الحقيقي). ولم يقرّر هذا إلا بعد أن أخذته السنوات بعيدا وأحسّ بزحفها عليه، كما أن رفيق عمره وصديق لياليه عمر غائب عن الوعي ممدّد في غرفة العناية المركزة في مصحة ما. عمر لم يصح من غيبوبته ويأخذه الموت، وادريس الذي فجع بما جرى لصاحبه قرّر أن يحتفي، لم يترك عنوانا، ولم يذهب قبل هذا ليعزي كما لم يعزّه أحد. ترك رواية مخطوطة لأمينة التي تسلمت دار النشر «مرايا» لتدير العجلة من جديد. توقفت أمينة أمام تقديم ادريس لروايته التي جاءت على شكل رسالة لقرائه وفيها يقول: (إن كنتم من المعجبين بكاتب ناجح وتحبون إبداعه وتنتظرون بشغف اصداراته الجديدة فلا تحاولوا التقرّب منه ولا التعرّف إليه شخصيا لأن النتيجة الحتمية هي إصابتكم بالخيبة، لماذا؟ لسبب بسيط جدا هو أنكم ستصدمون بواقع بديهي، منعتكم الهالة التي وضعتموها على رأس الكاتب من إدراكه هو كونه إنسانا فقط، إنسانا مثلكم). ولكن هذا ليس صحيحا دائما إلا بالنسبة الى حالة ادريس وليس بالنسبة الى آخرين غيره، فذلك المثل العربي القديم (اسمع بالمعيدي خير من أن تراه) لا ينطبق على الجميع بل على حالات ومنها حالة ادريس أو ذلك «المعيدي» الذي ضرب به المثل. هذه الرواية تقرأ بالتذاذ، مكتفية بموضوعها وعالمها وحواراتها وأبطالها، رغم كل فجائعهم يظلون في الذاكرة (حتى ادريس يخضع لعملية استئصال البروستاتا فتتوقف علاقته بالمرأة) وهذا يعني توقفه عن الكتابة بعد روايته الأخيرة التي بدأت أمينة بقراءتها مخطوطة، تقرأها وكأنها كانت تنتظرها إذ فيها سيقول كل شيء عن نفسه وعن صديقه الراحل عمر زوجها. الرواية نشرها المركز الثقافي العربي (بيروت الدار البيضاء) 2011 في 200 صفحة.