0%
Still working...

الصورة الانقسامية للمرأة في رواية “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد 

د. عبد المالك أشهبون: 

تستحضر فاتحة مرشيد في روايتها المشوقة “لحظات لا غير” صورة كل من المرأة والرجل في هذه الرواية من منظورين متميزين، يعكسان في الواقع إحساسا عاليا بطبيعة التناقضات الحقيقية، لا الوهمية بين الرجل والمرأة في مجتمع عربي ذكوري النظرة في غالبيته. 

في الأخير لا بد من التنويه بهذه الرواية التي استطاعت تقديم شخصيتها الأنثوية بوعي فلسفي غير نمطي. فهي شخصية نسائية إنسانية في المحصلة الأخيرة: تستسلم وتثور، ترغب وتكره، تتزوج وتنفصل، تعشق وتضحي بالغالي والنفيس من أجل من تحب.. كما أن هذه الرؤية الدينامية لطبيعة حضور الصراع بين التصور الرجولي والأنثوي يقدم وفق منظور يراعي الجوانب الفنية في الكتابة الروائية باعتبارها جوانب حاسمة في تلقي العمل أو ازدرائه، وبذلك تنأى الرواية عن تلك النغمة الاحتجاجية المسطحة فنيا، حيث يعلو الخطاب النسائي التحرري مقابل خفوت الصنعة الفنية.. ولكن هذه النظرة التعاطفية مع قضايا المرأة لا تعني النظرة الأحادية الجانب، أي رؤية قضايا المرأة بصيغة المؤنث فحسب… 

د. عبد المالك أشهبون: 

 جس الطبيب خافقي وقال لي: 

هاهنا الألم؟ قلت له: نعم 

فشق بالمشرط جيب معطفي وأخرج القلم! 

هز الطبيب رأسه … وابتسم وقال لي: ليس سوى قلم!!! 

فقلت: لا يا سيدي هذا يدُ… وفم! 

رصاصة… ودم! وتهمة سافرة… تمشي بلا قدم! 

أحمد مطر 

(شاعر عراقي) 

 عادة ما يغمر الحزن والمعاناة والخوف من الآتي أدب المرأة بصفة عامة، وليس هذا غريباً ولا مدهشاً عند النظرة الأولى، بل هو متوقع إذا عرضنا الأمر على الفكر، ودرسنا ظروف مجتمعنا العربي في ظل واقع المرأة ماضيا وحاضراً، وفي انتظار ما هو آت…فلا ندري لماذا لا تجد الروائيات حالة السرور إلا في الألم؟ أو بالأصح لا يستخرجن لذة هذا السرور إلا من مرارة الألم، وهي مفارقة طالما لازمت أدب المرأة الذي لا يخلو من مزيج بين الألم والتسلية. 

1 ـ صورة المرأة: من الاستسلام التام إلى التمرد الجذري: 

بعيدا عما ترسخ لدينا عن صورة الطبيب في أذهاننا، وبعيداً، كذلك، عن مؤثثات عوالمه المألوفة (مشارط حادة، وخز إبر، مجسات، قفازات بلاستيكية، أكياس دم، مصل التغذية…)، وعن أنشطته المعتادة (وهو منشغل في جس نبض مرضاه، أو منهمك في عملياته الجراحية الدموية، وقدامه مريضه وهو يئن تحت وطأة الألم…)، تهاجر بنا الطبيبة المغربية فاتحة مرشيد من عالم الطب: “الإسعافات الأولية للطفل»(2005) إلى عالم الشعر(«إيماءات»(2002)، «ورق عاشق»(2003)، «تعال نُمطر»(2006) «أي سواد تخفي يا قوس قزح»(2006)، ومنه إلى عالم جديد تشرئب إليه أول مرة وهو عالم الرواية الفسيح، حيث ينفتح أفق انتظار قارئ رواية “لحظات لا غير” على طبيبة/أديبة تدخل محراب الكتابة الروائية عن عشق ووله لا يقاومان. 

هكذا يتخيل إلينا صورة فاتحة مرشيد الطبيبة، وهي تخلع عنها الوزرة البيضاء الأنيقة، الشديدة البياض كندف الثلج، وتلقي جانباً، بحركة آلية عفوية، حقيبتها الطبية الباردة، لتلوذ بعد ذلك إلى فضاء الخيال الخلاق، بعيداً عن عالم المرضى ذوي الوجوه الصفراء، وفضاء المستشفى برائحته المقرفة، لكن هذه المرة لا لتنهمك في تحليل الأبدان السقيمة، بل لتطبيب النفس العليلة، وتليين صرامة العقل المتكلسة، واستكشاف جروح الروح الغائرة…فبدلاً من أن تتناول فاتحة مرشيد مشرطاً جافا وحاداً تغوص به عميقاً في الجرح المفتوح، تأخذ، بالمقابل، قلمها المنساب الذي يعطي للحبر حياة بكل معانيها…وهو ذات القلم الذي له وخز الإبر حينا، ونعومة اللمس حينا آخر. 

في هذا السياق بالذات، يتقاطع عالم الإبداع مع عالم الطب، ويحصل الاشتباك بين الألم والأمل، ويتعانق الواقعي والخيالي، ليغدو الإبداع عنصراً لا مناص عنه في تخصيب الآفاق، وتطوير النظريات العلمية نفسها…وفي هذا المجال بالضبط، يحلو لرائد التحليل النفسي سيغموند فرويد الاحتفاء بالأدب والأدباء أيما احتفاء؛ يعدد أفضالهم على مختلف إنجازاته الطبية، ويعترف لهم بالدين الكبير الذي لهم على مهنة الطب النفسي عامة. يقول مكتشف قارة التحليل النفسي: «إن الشعراء والروائيين هم أعز حلفائنا، وينبغي أن نقدر شهاداتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء…لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها. فهم في معرفة النفس معلِّمونا، نحن معشر العامة، لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم»(1)

وتنطلق رواية “لحظات لا غير”(2) من فكرة جوهرية مفادها أنه لابد للمرء ـ في كثير من الأحيان ـ من أن يخاطر بنمط عيشه، وبكثير من المعتقدات المترسخة في صيرورة حياته، وذلك حينما يستفيق، بفعل فاعل، من لحظات الغياب التي عاشها من قبل، ويستعيد الأمل في الغد الأفضل، ويطرح عن تفكيره الرؤية السوداوية إلى العالم الذي يحيا في كنفه؛ لأنه عندئذ فقط يستبقي حريته، ويصون كرامته، مثبتاً لنفسه ـ وللآخرين ـ أن وجوده ليس هو الوجود المحض أو الحياة الحيوانية الصرفة، بل هي الوجود الفعلي الخلاق، والحياة الإنسانية المفعمة بسعادة الروح. وهذا ما علمنا إياه التاريخ البشري الذي هو تاريخ الرغبات المرغوب فيها، وبالتالي فهو تاريخ الصراع الدامي الأليم من أجل انتزاع اعتراف الآخرين بحرية الذات واستقلالها. 

وهنا تستحضر فاتحة مرشيد صورة كل من المرأة والرجل في هذه الرواية من منظورين متميزين، يعكسان في الواقع إحساساً عالياً بطبيعة التناقضات الحقيقية ـ لا الوهمية ـ بين الرجل والمرأة في مجتمع عربي ذكوري النظرة في غالبيته…وهذا ما استرعى انتباهنا وحفزنا على متابعة تمظهرات هذه التصورات المختلفة والمتباينة في المتن المدروس، ومن ثمة تقييم مدى خروج الكاتبة عن نمطية الكتابة النسائية المألوفة لدى بعض الروائيات اللواتي يحلو لهن ترسيخ صورة نمطية عن المرأة الراضية بواقعها، المستسلمة لقدرها، والمنزوية في بيتها، والواقعة تحت رحمة رجل فض غليظ الطبع…  

من هنا كان لا بد من التأكيد على أن ما وسم شخصية أسماء الغريب (وهي الشخصية الرئيسية) في هذه الرواية هو تمردها على شرطها الوجودي الذي كانت قانعة به، بل ومستسلمة له في أغلب الأحوال. فإذا أخذنا بعين الاعتبار شخصية أسماء بطبعها الرومانسي الحالم، وبإيمانها العميق بالحب الكبير، بالحب الوحيد والأوحد، بالوفاء المطلق، وولعها الفطري والعفوي بالقراءة والكتابة، وتوقها إلى تحقيق توازن حقيقي ما بين رغبات الروح واشتراطات الجسد؛ فإن كل هذه المعطيات كانت هي الخميرة الأساس، والدافع القوي لثورة أسماء على القيود التي كانت تكبلها، والانطلاق وراء نداء الروح مهما كانت جسامة التضحيات… 

أول قرار حاسم اتخذته أسماء، في صيرورة استعادة حب الحياة بمعناه الواسع، هو طلبها الطلاق من زوجها الطبيب الجراح. وإن كان زواجهما ناجحاً على مستوى المظهر، فإنه يخفي فراغاً مهولا على مستوى الجوهر، وعلى مستوى العلاقة الروحية بين الزوجين. 

هكذا أدركت أسماء شيئاً فشيئاً أن حياتهما الزوجية يطبعها البرود القاتل، برودة أدوات الطبيب الجراحية…وأن بيتهما الزوجي كقاعة العمليات، معقم من كل حب..وأنها تحس إحساسا فظيعاً وهي تمارس الحب مع شخص لا يخلع قفازاته المطاطية لملامستها…زوج لم يستطع خلال عشر سنين من الزواج أن يلمس قلب شريكته… فأسماء ظلت عذراء طوال هذه السنوات العجاف روحياً، وما نجح زوجها السابق خلالها على فراش واحد في «فتح قلعة الجسد».  

 صحيح أنه جراح قلب ناجح، يقضي يومه بين الأذين والبطين، ويعرف كل أنّة في للقلب من خلال تخطيطه الكهربائي، لكنه «لم ينجح في تحسس نبضي..تقاسمنا الطموح نفسه، التحديات نفسها واكتشفنا يوم نجحنا يتفوق، مهنياً واجتماعياً، فظاعة فشلنا العاطفي»(3)..فبالنسبة إليها ليس من العسير فقدان الهوية، ولكن العسير للغاية هو الوعي بهذا الفقدان…وهذا الوعي باستعادة الذات خلق لأسماء إحساساً عميقاً بالحرية التي طالما افتقدتها…ونحسب أن الكثير أصبح ينكره عليها (وهو موقف أمها خصوصاً) إلا أنها بهذا الإحساس وجدت ضالتها المفقودة، وعثرت على جوهر ذاتها الخفي الذي طالما جاهدت لإخفائه استجابة لدواعي نمط العيش الذي انخرطت فيه بصفتها زوجة طبيب ناجح مهنيا واجتماعياً… 

إن قرار أسماء طلب الطلاق، والإصرار عليه إلى النهاية، جعلها أمام نفسها وجهاً لوجه بطريقة لا بد أن تثير القلق. ومن المعروف أن معظم الناس يترددون في اتخاذ قرارات من هذا النوع، ويتجنبونها أو يرجئونها بقدر ما ستطيعون؛ لأن اتخاذ القرار يعني الاندفاع قدماً إلى مستوى جديد للوجود البشري. إنه رهان صعب وأمل عنيد بغد أفضل، ولما كان المرء لا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل، فإن مثل هذا الرهان يكون دائما محفوفاً بالمخاطر، ومصحوباً بالقلق النفسي… 

القرار الثاني: ويتمثل في قبولها واقتناعها بجدوى إجراء عملية تجميل إثر استئصال نهدها… فقد كانت أمنيتها لسنوات أن تكون فخورة بثديين عطوفين، وهي ترضع طفلها على نحو استعراضي أمام الملأ، كما تفعل النساء البدويات بكل عفوية…لكن هذا الأمل أجهض «بعد عملية الإجهاض التي أجبرني عليها زوجي السابق وأنا لا زلت طالبة..». وقد تزامن هذا القرار الحاسم بتقارب حميم بينها وبين وحيد، بحكم جلسات العلاج النفسي التي خرجت عن سياقها المألوف، لأن شخصية وحيد المشاكسة لم تسعف الطبيبة من التعامل معه وفق ما تقتضيه قواعد المدرسة الفرويدية التي تحرص على ضرورة استحضار سلطة المحلل على مريضه حتى تظل العلاقة بينهما عمودية، في حين انقلبت العلاقة بين الطبيب والمريض في هذه الرواية إلى علاقة أفقية لا تقوم على مبدأ الندية بل تنهض على منطق الحوار والحوار المتبادل…وهنا تعترف أسماء بهذا التحول الغريب في علاقتها بمريضها: «في الطريق إلى بيتي أحسستُ برهبة تنتابني وأسئلة تلح عليّ: كيف أعادتني حصص علاجه إلى نفسي؟ أتُراني أُحلله أم أنه يحللني؟»(4). فلا شيء يعيد الحياة لجسد ميت، مثل صعقة الحب…وهذه الصعقة القوية هي التي حولت طاقتها الداخلية من الضعف إلى القوة، من الخرس إلى الجهر بمكنون الذات، من المواقف المترددة إلى الحسم فيها… 

فعلاقتها بوحيد تحكمها جملة من الثنائيات نذكر منها: التحليل النفسي والتخييل الإبداعي، الاندفاع والتعقل، الشعور واللاشعور، وكل ذلك يمر في مسارب الفضاء الحميم للكلمات، بسحرها المؤثر، وصورها النافذة، وتمثلاتها العميقة، وأصواتها المنعشة لرغبات الروح الدفينة…هذا التلاقي المنتج أيقظ في نفسها استعادة حبها للشعر الذي كانت تكتبه منذ سنوات قبل أن يتعثّر زواجها، وحفز في الوقت نفسه وحيد لإصدار ديوانه الشعري الذي كتب من وحي لقاءاته بأسماء… 

هذان القراران كانا حاسمين في مسار حياة أسماء ككل، وهو ما تؤكده بكثير من الاعتزاز والافتخار: «أذكر كيف بقبضة من حديد تحكمت في مصيري وغيرت مجرى حياتي. ربحت معركة المرض وبعدها معركة الطلاق ولولا اقتحام السرطان حياتي لما عدت إلى الحياة»(5)

القرار الثالث: ويتجلى في تقديمها الاستقالة من منصبها كمحللة نفسية، بعد أن تحولت علاقتها مع مريضها وحيد من علاقة علاج إلى علاقة عشق عارم لا يقاوم..لقد قدمت زوجة وحيد (سوزان)شكوى كيدية ضد أسماء، مما حولها إلى لجنة التحقيق التي اعتبرت ما يقع بين العشيقين منافياً لأخلاقيات المهنة:«تعلمين أنه غير مسموح لك بالدخول مع المريض في علاقة جنسية أو عشقية(لا يهم التسمية) مدى الحياة»(6)، وهو ما لم تستسغه أسماء وهي ترد على كل التهم الموجهة إليها… وبأسلوب شرس في الذود عن معتقداتها تجيبهم: «أليس الحب هو شريان الصحة النفسية النابض ومفتاح التوازن في الشخصية الإنسانية؟»(7)

انطلاقاً مما سبق، نجد أن صورة الرجل/الحبيب هي الصورة المثلى التي حرصت الروائية على تقديمها من بداية الرواية إلى نهايتها، وأدرجتها في سياق تجربة حب رومانسية شفيفة، تنتهي نهاية مأساوية حزينة، حيث يشكل البعد الرومانسي الجزء الأساسي من تمثلات الروائية فاتحة مرشيد في هذه الرواية من بدايتها إلى نهايتها. وهي صورة مغايرة لما ألفه القراء من ترسيخ رؤية أحادية الجانب لصورة الرجل في عالمنا العربي؛ تلك الصورة التي لا يرى فيها الرجل المرأة سوى أداة لهو، وإناء تفريغ لمتعه الجنسية بأسلوب أقرب منه إلى الممارسات السادية، وتفريخ للنسل…باختصار شديد: ترسيخ صورة الإذلال الجنسي في حق المرأة.  

ولعلّنا بهذا التصور المغاير تطلب منا الروائية ـ ضمنياً ـ ألا ننشغل بقصة الحب المتخيلة بين وحيد وأسماء عن أن نحبّ مثلهما، لنعيد إلى الحياة ألقها المتوهج، وطعمها اللذيذ وطراوتها التي غطت عليها مظاهر الجفاف والتكلس في العلاقات الروحية ما بين بني البشر في زمن العولمة. 

2 ـ صورة الرجل المرفوضة: الزوج والطبيب: 

لا تبدو الكتابة الروائية عميقة إلا بقدر ما تصطاد أوجه الهمجية المرعب فينا، حيث توجهت الروائية بالنقد اللاذع، والتعرية الفاضحة لبعض مظاهر التفسخ والفساد المجتمعيين. فبغير قليل من السخرية، تفتح فاتحة مرشيد النار على عينة من الأطباء الذين يتاجرون بآلام المرضى، ويباركون العقم يومياً بنفس راضية، ويتبادلون الجشع المقنع والحسابات الشحيحة…فأسماء لم تخلق كأشباه هؤلاء الأطباء لتخطيط مشاريع كسب سريع ولو بسلخ جلد الآخرين، حيث يصفها وحيد بقوله: «قلبك الفياض حباً وجمالا أنبل من أن يحشر مع الصيارفة المخاطة جيوبهم ولا يحملون في دواخلهم غير صحاري قاحلة. مع انه بوسعك تحقيق ربح كثير»(8). إنها شديدة الإيمان بأن الطب رسالة وليست مهنة، وتلك فلسفتها في الحياة، وأن الطبيب الذي يتقاضى أجره مقدماً ويشترط أجراً معيناً لعلاج المريض دون الالتفات لظروفه الاجتماعية والاقتصادية لا يستحق أن يكون جديراً بهذه التسمية… 

فلطالما سخرت أسماء من طينة هؤلاء الأطباء، وهي تبرر رفضها الارتباط بالطبيب محمد الصافي زميلها في المهنة، واصفة إياه بأنه طبيب ممتاز ولكنه«طبيب جداً». وأنها ليست لها رغبة في إعادة التجربة من جديد مع طبيب من طينة زوجها السابق،«شرح الحياة وأخذ منها عضواً صغيراً سكنه وقال أنا رب هذا الكون. الحياة أكبر من الطب يا عزيزي»(9)…فكأنا لسان حال قولها يهتف في وجه هؤلاء بالقول: ما أحو جنا إلى أطباء يقرأون ويبدعون، ويسمعون الموسيقى وعندهم قدرة على تذوق الغناء، ولهم شعراء مفضلون، ورحماء بمرضاهم، أكيد أن هذا النوع من الأطباء سيكون أفقهم أرحب وأخصب وأكثر تحضرا ممن لا يفهم إلا هذا التخصص فقط، ولا يعرف شيئا آخر. 

باختصار شديد يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين في حياة هذه الشخصية النسائية: 

ـ مرحلة فقدان الإحساس بالذات: وهي المرحلة التي قضتها مع الطبيب الجراح كديكور أمام المحيطين بهما. خلالها لم تكن أسماء تملك ذاتاً تحس وتعشق وتبدع، وإنما كانت مجرد موضوع لتحقيق غايات ومآرب زوجها الطبيب على المستويين الشخصي والاجتماعي. فكانت تبرر عجزها عن الكتابة، وتكتفي بتحمل الألم الداخلي الذي يهصر فؤادها، تتأمله، تختزنه، لاختزاله في قصة قصيرة أو قصيدة، وخلسة عن عين المتلصصين، تقوم بضمها إلى أوراقها الكثيرة المبعثرة لتودعها في دولابها الأمين… 

ـ مرحلة استعادة الذات المفقودة: وهي مرحلة حدوث المصالحة مع الجسد بمعناه الواسع… وقد تحققت هذه المصالحة من خلال سحر تلك العلاقة الغرامية المحفورة على الحجر التي جمعت بينها وبين وحيد. خلالها يستعيد كل واحد طاقته الخلاقة والمنتجة في كل مناحي الحياة. وتنبعث الشخصية المطمورة فيهما لتطير وتحلق… وهو ما يعني أن الحياة لم تعد عبئاً ثقيلاً على كاهلهما الصغير، بل تحولت إلى أفق واسع من الحوارات الحميمة المتواصلة التي لا تهدد من يعيشونها بخطر الملل والسأم… فاللقاء بينهما لا يقتصر على ساعات الوجود الفيزيائي الخارجي، بل يمتد عميقاً إلى نقاش هموم الذات في أبعادها الجمالية. هذا الثنائي العاشق الذي كان ثالثهما الإبداع، حققا ـ ضمنيا ـ في فترة وجيزة شراكة زوجية على قاعدة الإبداع والخلق على غرار كثير من المبدعين اللامعين الذين لا تتوانى الروائية في استدعاء نماذج في هذا السياق، ولعل أشهرها سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر….. 

وهذا ما مكن أسماء من تحمل كل صروف الدهر وتقلباته، بعد ما ستؤول إليه حياة حبيبها وحيد الذي أعياه الداء، وهدته آلام المرض الخبيث من جهة، وما أصبح عليه وضعها الاجتماعي بعد قرار الاستقالة من مهنتها كفاتورة دفعتها ثمناً لنيل حريتها، واختياراتها الوجودية من جهة ثانية…هذه الوضعية شكلت لها عذاباً معنوياً موجعاً، ما دام عذاب البدن أخف منه وطأة وأعفى أثراً(استئصال ثديها). على أنها جربت كليهما، وذاقت الأمرين منهما معاً. ورغم كل ما حصل ويحصل، فقد أظهرت أسماء قوة وعزيمة وصبراً لا نظير له، وكانت أقوى من الرجل في قوة تحملها للتقلبات ولمرض زوجها وللإرهاق النفسي والعصبي الذي ألم بها من كل جانب، وهي تسند حبيبها في أثناء سكرات الموت الأخيرة، تهدهده وتحنو عليه كطفل لم ترزق به من قبل. 

وهنا نؤكد على الطابع الإشكالي لشخصية أسماء التي لا تكاد تريح ذاتها من بعض ما تنوء به من جراء استئصال ثديها، ومن أعباء الطلاق من زوجها الطبيب، واسترداد حريتها العاطفين من خلال الاستقالة، وكلما حاولت التخلص من هذه العوائق المادية والمعنوية إلا ورجعت إليها بصورة أشد وأقوى، حتى تشعر أن ما خرج منها ليس إلا جزءا من العبء الذي تختزنه فيعاودها القلق والاضطراب، لهذا قلما تنعم نفسها بالراحة وتسعد بالاستقرار. وإن هي بلغتها سراب السعادة المأمولة حين تتزوج برفيق عمرها وحيد، فسعادتها لا تجاوز “لحظات لا غير”، كأنها منذورة للغوص كل مرة إلى الأعمق والمجهول الذي لا قرار له، يجذبها أبداً نحوه دون إرشادها إلى عمق هذا القرار… 

3 ـ صورة الرجل المثلى: العاشق والعشيق: 

تأخذنا هذه الرواية الأنيقة إلى العوالم الحميمية لشخصية وحيد الكامل بصفته المريض الذي حاول الانتحار بعد نوبة اكتئاب حادة مر بها، ليحال ملفه الطبي بعد ذلك إلى المحللة النفسية أسماء التي ستتولى أمر علاجه…وعبر آلية التداعي الحر التي تمارس عادة في الطب النفسي، سيحكي وحيد سيرة حياته، وكذا أهم المحطات والمنعطفات الكبرى التي أوصلته إلى حالة اليأس والاكتئاب والسوداوية، والرغبة في وضع حد لحياته… 

ومن خلال النبش في تلافيف ذاكرة وحيد الطفولية، ستجول بنا استرجاعاته على أهم حدث مفصلي في طفولته: ألا وهو كرهه الشديد لأبيه، لنكتشف، بعد جلسات الاستماع اللاحقة، أن سبب هذه الكراهية القصوى يرتد إلى حادثة السير المأساوية التي أسفرت عن موت أمه، حيث يعتبر وحيد أن المسؤول الأوحد والوحيد عن وفاتها في هذه الحادثة الفظيعة هو تهور أبيه الذي كان يسوق السيارة بسرعة جنونية، وهو في حالة سكر… 

ستنثال ذكريات وحيد بعد ذلك، وفي محطة أخرى من محطات عمره، ليخبر طبيبته عن تجربة انخراطه في تنظيم سياسي ماركسي يدعى«إلى الأمام». يلتقي هو ورفاقه في سرية تامة، يوزعون المناشير في المؤسسات التعليمية، يتقدمون صفوف الإضرابات الطلابية…ولا يخفي وحيد افتخاره بالدور العظيم الذي بدا لعبه هو ورفاقه في الدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام إلى أن جاءت حملة الاعتقالات وهو يجتاز امتحان الباكالوريا حيث نالها بتفوق، واعتقل إبراهيم رفيقه الروحي في التنظيم، ومعه مناضلون آخرون، حيث ساد الهلع وسط الرفاق، وانزوى كل في بيته حتى انتهت السنة الدراسية… كل ذلك وغيره عجل بسفر وحيد إلى فرنسا هربا من شبح الاعتقالات، وبحثاً عن آفاق معرفية جديدة… 

وستتداعى ذكريات وحيد إلى فرنسا وهو طالب في جامعة السوربون(شعبة الفلسفة). فبفرنسا هزمت الأنوثة وحيد في أول تجربة حب عرفها في عمق باريس: فضاء النور والمعرفة والتحرر. فقد كان يحب ماريا (طالبة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة)…وبقدر ما صالحته مع جسده، وبقدر ما أحبها بقدر ما صدمته صدمة كبيرة، وهي تقول له باكية وآسفة: «إنها سحاقية وتحب صديقتها التي تقاسمها نفس الشقة»(10). كان وقع هذه التجربة الفاشلة عاطفياً قاسياً على وحيد، راح بعدها يبحث عن بديل لها في كل النساء. أدمن الجنس بلا حدود، وغدا زير نساء بالمعنى الكازانوفي. 

هذا النرجسي المفتون بذاته، والمعتد بغزواته الجنسية قلما يستطيع أن يعجب بواحدة من النساء اللواتي عاشرهن، وقلما يقبل أن يعاملهن متنازلاً عن أنانيته المفرطة…وهذا عامل مهم من عوامل الإخفاق في مضمار إقامة وحيد علاقة حب متوازنة مع غيره من النساء اللواتي قابلهن، وربما هذا الشيء هو الذي عمق فيه ميلاً إلى ازدراء كل اللواتي يمنحن أنفسهن له عن طواعية… لأنه يخفي داخله حباً ضائعاً لم يتسن الظفر به بعد…فكثيرات هن اللواتي أحببنه، لكنه كان عاجزاً عن منحهن أكثر من زبد أبيض، ذات مد، كبحر عقيم على حد تعبير الروائية… وبحسب التحليل النفسي، أصبح وحيد يعاني من مرض محدد هو: فقدانه المقدرة على احترام المرأة التي يشتهيها. 

ولما عجز الجنس عن إشباع رغباته المكبوتة، بحث في الكحول عما يروي جفاف القلب، واستسلم لسوداويته المستثارة بفعل الكحول. وكان انجرافه نحو الهاوية دون رجعة.. هكذا فقد الشغل الذي كان يعيش منه، ويسدد مصاريف دراسته… من هنا كان في حاجة ماسة إلى امرأة تحرره من تخيلاته الفاحشة، وتروي رغبته بلا قيد أو شرط…وتحافظ له توازنه الاجتماعي والمادي…. 

وككل الصدف الجميلة التي يضعها القدر العطوف عند منعطف الطريق، ظهرت سوزان في حياة وحيد كملاك من السماء، بكرمها العاطفي وفيض إنسانيتها. كان حبها لوحيد عطاءً مطلقاً دون مقابل. بفضلها أقلع عن الكحول، واستطاع أن يكمل دراسته، حيث تزوجها، وقرر العودة إلى المغرب برفقتها. 

سنتعرف، في سياق جلسات الاستماع، على اهتمامات وحيد، وهو الأستاذ الجامعي المهووس بالشعر والفلسفة، بل هو شاعر يجيد الكتابة الشعرية باللغة الفرنسية. وإذا كانت خاصيّة فكرة الحبّ الصاعق لا تخلو من جاذبية وحيوية وعلاج، وأن الشعر يعيد للحياة حيويتها وطراوتها وألقها، فإن الأبهى هو اجتماع الحب والشعر، وانصهارهما في بوتقة واحدة، حيث يصبحان مضادان حيويان ضدّ كل مظاهر اليأس والإحباط والسوداوية! 

فبفضل الظهور المفاجئ للطبيبة أسماء في أهم منعطف في حياته، استطاع وحيد الكامل أن يخرج من اكتئابه، ويتحرر من رؤيته السوداوية إلى العالم، ويسترجع ثقته بنفسه من جديد. فقد أعادت له جلساته مع الطبيبة ذلك الأمل في الاستمتاع بكل ما هو جميل وخلاق في الحياة؛ إنها بمثابة شعلة نور تسللت بلين ورفق إلى قلبه, ولم يعد المريض/ الحبيب قادراً أن يحبس نغم الهوى والعشق والتجول في ربوع كلامها، وجمال حسنها منذ اللقاء الأول. فهي الطبيبة الرقيقة، الرومانسية، المبدعة التي لم يظفر طوال حياته بنموذج لها. بعثت أسماء في روحه معاوَدة كتابة القصائد التي لم تخف إعجابها بدلالاتها ورقتها وعمقها، وجعلتها تنجذب إليه لحظة بلحظة. في تلك الأثناء، ستسافر أسماء إلى فرنسا لإجراء عملية تجميل لنهدها الذي تم استئصاله من قبل… 

ومع مرور كل يوم جديد في باريس، يجد وحيد قبلته الندية في تذكرها، والشوق ينساب إلى روحها، يميل شوقًا وحنوًّا لرفيقة عمره التي صرمت, ومؤنسة وحشته التي بانت، فتكون لحظة الفراق المؤقت ملهمة للسطور, ووحيًا للخواطر, وباعثاً على جمال الكلم الشاعري. يترقب مرور الوقت بشوق حار لتعود إليه من هناك كعودة العاشق المتيم إلى حضن حبيبه… 

وبعد عودتها، لم يعد أمر العلاقة العاطفية بينهما خفيا على من يحيط بهما، فدخلا في علاقة عشق لا حدود لها. فقد كان وقع هذه العلاقة الغرامية على الطرفين صاعقاً في حكمته، جامحا في رغباته، على الرغم من أن وحيد كان على دراية تامة بخطورة ما هو مقدم عليه، سيما وأنه مرتبط بسوزان، كما كانت هي كذلك تعلم علم اليقين، أن أعراف الطب النفسي تمنع حدوث العلاقة العاطفية بين الطبيب والمريض وتطويرها…. 

وقد يبدو أن وحيداً غارق في مستنقع الخيانة الزوجية ظاهرياً، ولكنه باطنياً هو بحث دؤوب عن النصف الآخر الضائع من الرجل والذي تاه لمدة طويلة قبل أن يعثر عليه…يقول وحيد في هذا السياق: «كان لي مع سوزان تواطؤ الروح ومع بعض الأصدقاء تواطؤ الفكر ومع عشيقاتي تواطؤ الجسد. معك أحس بامتلاء الروح والفكر والجسد. وهذه الحالة لا نصادفها إلا نادراً وقد نبحث عنها عمراً بأكمله دون أن نحظى بمصادفتها» (11)

لم تنفع تهديدات زوجته سوزان، ولا نصائح الدكتور عبد الرحيم الطويل للطبيبة العاشقة التي اضطرت إلى الاستقالة تجنُّباً للطرد كما تقضي قوانين المهنة…عندئذ طلّق وحيد سوزان وتزوج من حبيبة قلبه. إلاّ أن السرطان الخبيث المتسلل الغادر إلى رئة وحيد لم يمهله طويلاً، فكان العد العكسي لمسار حياته. فبعد حصص العلاج الكيميائي غير المجدي، أعادته أسماء إلى بيته كي تعتني به بنفسها وتكرس كل وقتها للوقوف بجانبه، فكأنما تأمل بهذا الموقف أن يحتفظ حبيبها بكرامته حتى النهاية، مصرة في الآن ذاته على أن  تحتفي بما تبقي من حياة في جسد ذاهب إلى الموت لا محالة. 

ورغم أن الموت كان اقرب إليه من حبل الوريد، فقد كان وحيد جد رحيم بأسماء التي كان قلبها يتمزق من واقع الحال:«قال لي بعد أن أحس بإحباطي:«لا تنسي حبيبتي أنه سبق أن حاولت الانتحار فكل ما عشته بعد ذلك هو هدية من القدر، لقد كان الموت كريماً معي…أمهلني لأتعرف عليك ونعيش في شهور كل الأعوام القادمة»(12). فغذت تعتني به في نهايات مساره المرضي كطفل لم ترزق به من قبل، إلى أن مات وهو في أحضانها. لم ترغب أسماء أن يفسد أحد عليهما حميمية الوداع الأخير.. 

ومما سبق نستنتج أن شخصية وحيد شبيهة بذلك الملاح التائه، والإنسان الذي يبحث عن ذاته داخل هذا الوجود المتلاطم الأمواج، وهو الذي يصرح لها قائلاً «أتعبني الترحال، وحان الوقت لكي أحط الرحال…وإن كان لا بد من موت فليكن بين أحضانك»، كما أنها شخصية بوهيمية، كذلك، من خلال دأبه على كسر كل القيود، فمن مأثوراته: «خلق الإنسان القوانين ليخرقها»… 

ـ بصدد بعض خصوصيات البناء الروائي: 

أ ـ البناء الدائري في الرواية: 

تتحدد ملامح البناء الدائري في كون نهايته تتطابق مع بدايته، والعكس صحيح. وهذا ما تجسده رواية “لحظات لا غير” من خلال المقطع التالي:   

«أذكر يوم دخل عيادتي أول مرة… 

كان كالطفل الذي لم يهيئ الامتحان..اتخذ المشاكسة سلاحاً ضد وقار المجلس، وقد كنت في انتظار مريض بخطوات بطيئة ورأس مطأطأة كما هو شأن المصابين بالاكتئاب ـ حسب التقرير الطبي الذي بلغني من المستشفى ـ …» (13)

إن الأمر لا يتعلق في هذا النوع من البدايات بتكرار ساذج وبسيط للأحداث، يتم بواسطته نقل النهاية بحذافيرها إلى البداية. فثمة إحالات تستحضر النهاية الروائية عبرها عوالم البداية، وتبرزها مجموعة من العلامات التعيينية التي تضفي عليها تسنينا حواريا لا يكرر علامة البداية في النهاية، وإنما يعيد إنتاجها بإدراجها ضمن سياقات حكائية جديدة. فشتان ما بين لحظة البداية التي تدشن انطلاقة فعل السرد، وتحكي حكاية انتهت من قبل، كما تسرد بالتدريج قصة حب غير عادية، تتخلق بين وحيد وأسماء، وبين لحظة النهاية التي تكتمل فيها دورة الأحداث بموت وحيد وهو في أحضان أسماء التي لم ترغب أن يفسد أحد على الحبيبين حميمية الوداع الأخير..فالروائية بهذا التنظيم السردي الدائري، تقدم لنا شخصية وحيد بصفته الكائن المنذور للموت منذ البداية. فهو ينجو من حادثة السيارة، وتبوء محاولة انتحاره بالفشل، ويموت بالمرض الخبيث في نهاية سيرة حياته. 

إلا أن أهم ما أثارنا في هذا الصدد، هو أننا بإزاء قصة ـ إطار(سيرة حياة أسماء) وقصة أخرى تندرج في هذه القصة ـ الإطار وهي سيرة حياة وحيد. وإن كانت سيرة حياة أسماء لم تكتمل بعد نهاية الرواية، فإن سيرة وحيد اكتملت وانتهت(نهاية درامية)، على أن تضافر وتشابك القصتين كان هو العمود الفقري للرواية من بدايتها إلى نهايتها، فلا معنى لسرد قصة وحيد بمعزل عن سرد قصة أسماء والعكس هو عين الصواب… 

ب ـ الاستشهادات : 

لطالما أغوتنا فكرة الاستشهادات المبثوثة في ثنايا هذا النص الروائي من بدايته إلى نهايته. فهي كالدرر اللامعة التي تشع بفكرة ملتمعة أو خاطرة طريفة أو لحظة شعرية أخاذة. فبالعودة إلى الرواية، يسجل القارئ انتشار الاستشهاد على نطاق واسع. إنه في المحصلة الأخيرة جزء حيوي من إستراتيجية الكتابة الإبداعية لدى فاتحة مرشيد في هذه الرواية.  

وقد يكون الغرض من توظيف هذه الاستشهادات على نطاق واسع: استمالة القارئ واستدراجه، وتنبيهه إلى عينة مقروء الكاتبة، إضافة إلى أنه يمنح النص «قيمة تنميقية وجمالية»(14) لا يستهان بها… 

وتتراوح هذه الاستشهادات في هذا النص ما بين:  

ـ استشهادات شعرية: وإذا عرفنا أن لفاتحة مرشيد خمسة دواوين شعرية في سيرة حياتها الأدبية، سيتأكد لدينا أن هذه الاستشهادات الشعرية(رامبو، مقاطع من أغنية جاك بريل، ومحمد عبد الوهاب..) تمثل نوعا من التصادي بين تجربتها الروائية وتجربتها الشعرية، حيث تستحضر الروائية شريحة من مقروئها الشعري المأثور الذي يشكل ـ لا محالة ـ تصوراً فنياً للعالم، وانحيازاً لحساسية فنية حداثية لا بد من أخذها بعين الاعتبار. 

ـ استشهادات نثرية: تفرض نظير هذه النصوص الصغرى المقتبسة من مرجعيات نثرية فنية مختلفة(سارتر، سيمون ديبوفوار، فرويد، أوسكار وايلد…) ضرورة الانتقال من اعتبارها محض جمل عارضة وهامشية، إلى تمثلها كعلامات وإشارات موحية خصيبة الآفاق، في سياق خلق مجال حواري زاخر بين النصوص المرحَّلة من منابتها الأصلية وبين النص الحاضن، ولا يتحقق استيعاب هذا الطابع الحواري الخصيب من دون استحضار أهمية الأفق التناصي في هذا المضمار. فلو أمعنا النظر في علاقة هذه النصوص المستشهد بها بالنص المركزي لوجدناها علاقة الجزء بالكل، ذلك أن النص المستشهد به يحمل دلالة عامة، والنص المركزي يفصل في أبعاد وجوانب ودقائق تلك الجوانب العامة، بطريقة صريحة أو ضمنية. 

والحق أن الإمتاع والمعرفة عنصران أساسيان من عناصر هذه الرواية كذلك. فقد استطاعت الكاتبة تصريف نموذج من الخطاب النسائي الذي كان ولا يزال حاضراً بقوة في أدبيات الحركات النسائية المغربية بطريقة روائية. فبذكاء مميز تعمد الروائية إلى التقاط بعض من مشاكل المرأة من خلال التركيز على الهم الوجودي والسأم أكثر من اعتمادها على جرد الملف المطلبي للمرأة بصفة عامة… 

من هنا نقول إن الاستشهاد عادة ما ينطوي على دلالات متميزة، تضفي بريقاً خاصاً وهيبة استثنائية على الكلمات والأفكار التي تكتنف المقول. فالأسئلة التي يضمرها النص المستشهد به عادة ما تشي بحساسية فكرية(بخصوص طبيعة الخطاب النسائي) وفنية ما، تروم الروائية إدراج عملها الإبداعي في خضمها، حيث لجأت إلى المقتطفات الشعرية أو النصوص الشاعرية لتثبيت هذا التوجه وتدعيمه، قصد تقريب المسار الفني للروائي من القارئ المفترض.  

تفضي بنا هذه الإيضاحات إلى أن النصوص المستشهد بها قد تبدو ـ في ظاهرهاـ كما لو كانت محض تعابير صماء؛ إلا أنها في واقع الأمر عبارة عن مقتطفات من نصوص معروفة، تحيا ـ في انفصال عن سياقها الأصلي السابق الذي قد نعرفه كما قد نجهله ـ داخل سياق جديد، تكون سابقة عليه، وتنتمي إلى مجال تناصي مختلف، حيث تقتلع الروائية هذه النصوص من حقولها الأصلية ليقذف بها في حقول أخرى تتحقق لها الحياة فيها من جديد، وفي سياقات مغايرة كذلك. 

وإذا كان لأستاذنا الجليل محمد برادة رأي آخر في هذا الموضوع، وهو يعلق على ظاهرة الاستشهادات في هذه الرواية، حيث يقول: «إن «لحظات لا غير» تطمح إلى المزاوجة بين الحبكة المُشوّقة والتأملات المُحفزة على «استعادة» قيمة الحب عبر لغة تنضح بالشعر والشذرات المُكتنزة. إلاّ أن الكاتبة تحرص أحياناً على الاستشهاد بأقوال وعبارات لشعراء وفلاسفة قد لا تكون مُبرّرة، لأن ذكر أسماء أصحابها يشوّش على متعة القراءة وعلى تلاحم خطاب الشخصيتيْن الأساسيتيْن، خصوصاً أن تلك الاستشهادات ترِدُ في لغتها الفرنسية»(15), فإننا لا نشاطره الرأي نفسه، وقد سبق لغيرنا من النقاد ـ في مقامات تداولية متشابهة ـ أن ردوا بقسوة على من يدعي أن الاقتباس محض حذلقة. هكذا انبرى جونسون للرد على ذلك الادعاء بقوله:«كلا، يا سيِّد، إنها شيء جيد؛ إذ فيها عقل مجتمع. فالاقتباسات الكلاسيكية هي كلام رجالات الأدب في مغارب الأرض ومشارقها»(16). ذلك أن الكاتب عادة ما يعبر عن نفسه «بكلمات استخدمت من قبل، لأنها تقدِّم المعنى الذي يريده بطريقة أفضل مما يمكنه هو نفسه أن يقدمها، أو لأن هذه الكلمات جميلة وذكية، أو لأنه يتوقعها أن تلامس وتراً يربط به قراؤه ما بين الأفكار، أو لأنه يبتغي استعراض اطلاعه الواسع وقراءته المتقنة»(17)

نخلص إلى أن هذه الرواية تتناول هموم نساء الطبقة المتوسطة دون أن تتنكر للمجتمع وتقاليده الصارمة. فهموم أسماء تتركز حول الكيفية التي ينبغي أن تعاش فيها الحياة دون قيود, وأزمتها هي قبل كل شيء أزمة وجودية, أزمة يحكمها الملل من الحياة الزوجية وروتينها…ولكن يبقى الناظم الأساسي الذي يوحد الكل النصي، وتنضوي تحت لوائه باقي الموضوعات الفرعية هو التعبير الرومانسي الذي يلف المناخ الروائي بأكمله، مع حضور النغمة الميلودرامية بقوة في نهاية الرواية.. 

في الأخير، لا بد من التنويه بهذه الرواية التي استطاعت تقديم شخصيتها الأنثوية بوعي فلسفي غير نمطي. فهي شخصية نسائية إنسانية في المحصلة الأخيرة: تستسلم وتثور، ترغب وتكره، تتزوج وتنفصل، تعشق وتضحي بالغالي والنفيس من أجل من تحب…كما أن هذه الرؤية الدينامية لطبيعة حضور الصراع بين التصور الرجولي والأنثوي يقدم وفق منظور يراعي الجوانب الفنية في الكتابة الروائية باعتبارها جوانب حاسمة في تلقي العمل أو ازدرائه، وبذلك تنأى الرواية عن تلك النغمة الاحتجاجية المسطحة فنياً، حيث يعلو الخطاب النسائي التحرري مقابل خفوت الصنعة الفنية…ولكن هذه النظرة التعاطفية مع قضايا المرأة لا تعني النظرة الأحادية الجانب، أي رؤية قضايا المرأة بصيغة المؤنث فحسب… 

وإذا جاز لنا أن نصدر حكم قيمة ما على هذه الرواية؛ فإن القول الموفق، والرأي السديد الذي واجه به وحيد حبيبته أسماء ـ  وهو يقرأ إبداعها ـ هو الذي يمكن استعادته في سياق حكمنا على تجربة فاتحة مرشيد الواعدة في مجال الكتابة الروائية. ومن جهتنا نقول لها على لسان وحيد:«أسلوبك في السرد سلس، وممتع أرى فيك روائية جيدة». وربما لن تستسيغ الروائية روح هذه الملاحظة التي تمعن في ترحيل فاتحة مرشيد من جنسها الأدبي المفضل لديها وهو الشعر، وتستطرد في الرد قائلة:«أنت تبالغ، الرواية تتطلب نفساً طويلاً، ربما أنجح أكثر في القصة»؛ فإن خلاصة مواجهتنا النقدية لها هو ما مفاده:«لا يهم، الجنس الأدبي الذي تكتبين فيه. المهم هي الكتابة، ومن يدري فربما تخلقين جنساً أدبياً جديداً..الأطباء عندما يكتبون يفاجؤون»(18). وهذا شأن الطبيب والروائي البريطاني المشهور آرثر كونان دويل(1859 ـ 1930)، خالق الشخصية الخيالية المعروفة شارلوك هولمز التي جعلته أشهر من نار على علم. وكما فاجأنا مؤخرا الطبيب والروائي علاء الأسواني صاحب رواية “عمارة يعقوبيان” التي غدت في المشهد الثقافي من أهم الروايات الأكثر انتشاراً، وبذلك حق لها أن تصنف ضمن الأعمال الأدبية الأكثر مبيعا ((Best-seller في عالمنا العربي. 

   -S. Freud : « Délire et rêves dans la GRADIVA de JENSE », NRF, 1970, p : 127 

   ـ فاتحة مرشيد: “لحظات لا غير”(رواية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، ط: 1، 2007.   

   ـ المرجع نفسه، ص:34.   

   ـ المرجع نفسه، ص:35.   

   ـ المرجع نفسه ، ص:158.   

   ـ المرجع نفسه، ص:142.   

   ـ المرجع نفسه، ص:143.   

   ـ المرجع نفسه، ص:150.   

   ـ المرجع نفسه، ص:99.   

   ـ  المرجع نفسه، ص:28.   

   ـ المرجع نفسه، ص:154.   

   ـ المرجع نفسه، ص:160.   

   ـ المرجع  نفسه، ص:7.   

  ـ عبد الفتاح كليطو: “الأدب والغرابة”، دار الطليعة، بيروت، ط:2، 1983، ص:77.  

   ـ تراجع هذه المقالة للناقد محمد برادة في موقع جريدة: “الحياة اللندنية” على الإنترنيت، بتاريخ 11/03/2007…  

  ـ نقلا عن: مارجوري غاربر: “علامات الاقتباس”، مجلة: “الكرمل”، العدد: 69، خريف 2001 ، ص:65. 

  ـ المرجع نفسه، ص:67. 

   ـ فاتحة مرشيد: “لحظات لا غير”، مرجع سابق، ص:123. 

جريدة يومية الناسالملحق الثقافي، 2 يونيو 2007 العدد 214