الشعر يرمم ذرات الطين بداخلي
حاورها: أحمد الشهاوي
تؤمن الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد بمقولة الشاعر ميركا كارتارسو التي تعبر بدقَّة عما تعنيه كتابة الشِّعر لها.. يقول فيها:”الشعر أنبوبة أكسجين تساعدنا أثناء الغوص في كتم النَّفس لفترة قصيرة، لذلك فنحن بحاجة إلى أنبوبة أكسجين حتى نغوص إلى داخلنا بأمان”.
وتقول الطَّبيبة والرِّوائية المغربية:”الشعر يمكِّنني من تجديد نَفَسي وسط التلوث الذي يهدِّد بيئتنا كل يوم أكثر.. يمكِّنني من سبر أغواري، من إعادة ترميم ذرَّات الطِين داخلي.. يمكِّنني من المصالحة مع ذاتي ومع العالم، وكطبيبة أؤمن بالكلمة البلسم، فللكتابة فعل العلاج النفسي على الكاتب وقد يفلح القلم حيت أخفق المشرط”.
وتقول الشاعرة التي نشرت أخيراً روايتها الأولـى:
ج: “الحاجة إلى الشعر أزلية وأضن أن الإنسانية في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للشعر، للرواية، للمسرح، للسينما.. لكل ما يحصِّنها ضد العنف، والدمار الروحي، والبؤس الوجداني.. لا تفاضل بين الشعر والرواية، ويبدو لي أن مستقبل الأدب في النهوض بكل أشكال التعبير الإنساني، من تحريرها من كل رقابة أو حصار أيديولوجي.. في جعلها غير خاضعة لحدود المحلية الضيقة.
لا أصدق أن هناك أزمة تهدِّد الشعر بالانقراض، كل ما هنالك أن الشعر يمر بمرحلة انتقالية.. الكل صرخوا أن الشعر يحتضر خلال المرحلة الانتقالية من الكتابة الكلاسيكية إلى الكتابة العمودية، فولادة تجربة جديدة تمر عبر مخاض وأزمات، القصيدة الآن تتحرَّر لم تعد مرتهنة بقضية أو بخلفية معينة، ولكل عصر فنه، وشعره، ورايته التي تعكس بالضَّرورة اهتماماته وهمومه ومشاعره”.
وحول طريقتها في الكتابة الشعرية تقول فاتحة مرشيد:
ج: ” إنَّني بحكم تكويني العلمي أميل إلى الاختصار والدِّقة في اختيار الكلمة، أميل إلى القصيدة الرشيقة وكأنِّي بذلك أحارب السمنة الشعرية إن صح التعبير”. مضيفة أن كلاً من الطب والشعر أضافا لبعضهما البعض شيئاً ما، فالطب عمق إحساسي بآلام الآخر.. جعلني ألمس عن قرب تخومه الجسدية والنفسية ونزيفه الداخلي، وعندما يكون هذا الآخر طفلاً (يحكم اختصاصي في طب الأطفال)، فهو يعيدني حتماً إلى طفولتي الخاصة، إلى دهشتي الأولى ووجعي الأول.
المبدع يتغذى من الألم ويحتاج إلى أن يغوص عميقاً في طفولته وحواسه البدائية، ويبقى عالم الطفولة قريبا جداً من الشعر طافحاً مثله بالانفعال والتلقائية.
أما عما أضافه الشعر للطب، فهو بالتأكيد جعلني أكثر إنسانية في التعامل مع الآخر عمق حدسي وجعلني لا أخجل من قول: لاأدري، أمام حالات معينة.
يحدث أن أقف ككل الأطباء عاجزة أمام حالات مرضية، الشيء الذي يقوي إحساسي بالطابع المؤقت للوجود! حينها يمنحني الشعر الوهم الجميل بأبدية اللحظة”.
وتقول فاتحة مرشيد:”كوني أكتب الشعر ليس اختياراً واعياً، فهو بالتأكيد الجنس التعبيري الأقرب من تركيبتي النفسية، العقلية والإبداعية.. الرواية تتطلب نَفَساً طويلاً، وأنا لست من النوع الماراثوني، أنا صاحبة المسافات القصيرة، صاحبة الحِدَّة بامتياز، و ربما لهذا السبب تأتي كتاباتي متشذرة.. مع ذلك أنا عاشقة للرواية أقرأها أكثر مما أقرأ الشعر، بل إن كتاباتي تتغذى من الرواية.
لي بعض المحاولات الخجولة في القصة القصيرة والمحكيات قد أطوِّرها عندما يحين أوانها.
أما عن علاقتي بالفنون الأخرى فهي كلها حاضرة في حياتي اليومية وأحتاجها لتطهير وجداني وروحي وهي تثري حتماً كتاباتي.
أنا حريصة على حضور الموسيقى في رحاب الشعر، وأحب أن تكون قراءاتي مصحوبة بعزف موسيقي، ليس لأنها تملأ فراغا تركه الشعر، ولكن لما تشكله من ثراء وجداني للمتلقي، ولكونها تجعل اللحظة الشعرية تحلِّق عالياً.
أما علاقتي بالفن التشكيلي فتجربتي المشتركة مع الفنان المغربي أحمد جاريد في ديوان “ورق عاشق”، وفي حقيبة فنية تحمل العنوان نفسه، جعلتني أدرك أنه لا فصل بين عناصر الإبداع، فهي تتقاسم الهاجس نفسه والقلق نفسه، وتقتات من بعضها البعض.. فقد تمنحك قصيدة لوحة أو تقودك رواية إلى قصيدة..”.
وترى فاتحة مرشيد (الطبيبة والشاعرة معا):
ج: أن علاقة الطب بالشعر قديمة جداً، فالأطباء القدامى كانوا شعراء وعلماء فلك وعلماء رياضيات.. كل منهم كان موسوعة في حد ذاته، لكننا الآن في عهد التخصصات العلمية و التكنولوجية، و التخصص يتطلب التعمق في ميدان واحد، و أن الأطباء أبدعوا ولا يزالون و أذكر منهم على سبيل المثال : يوسف إدريس، نوال السعداوي، إبراهيم ناجي..و غيرهم و هذا لسبب واحد هو كون الطب مهنة و الشعر هوية و هواية، و المبدع يمكنه أن يمتهن أية مهنة تمكنه من العيش بكرامة دون أن يجد نفسه مطالباً بالبحث عن العلاقة التي تجمع بين هذه المهنة و الإبداع، لكن إن كان لابد من إيجاد علاقة ما، فسأقول إنها علاقة انسجام و تكامل، يكفي أن نرجع إلى تعريف الأطباء القدامى للطب، لنجد أنهم يعرفونه على أنه تطبيب و مواساة، فالتطبيب هو كل ما يتعلق بالعلاج و الجراحة، و المواساة هي التعامل مع المريض على أنه إنسان يمتلك جسداً و روحاً..إنسان يجب الإنصات إليه و مواساته، و المواساة تعتمد الكلمة أساساً، فالكلمة لها القدرة على أن تكون بلسماً كما يمكنها أن تكون مقصلة، و الإنسان يحتاج إلى تطبيب جراحه الجسدية و الروحية معاً، وربما لهذا يبقى الطب أقرب المهن للشعر و الإبداع عامة، و وعي الأطباء بهذا جعلهم يستعملون العلاج بالموسيقى و العلاج بالتشكيل في بعض الأمراض النفسية، علاوة على حصص العلاج النفسي التي تعتمد الكلمة كوسيلة تفريغ و ترميم.
والشعر – بالنسبة لي – سابق على الطب، إذ بدأت الكتابة منذ الصبا الأول، ودراسة الطب أتت لاحقاً لتصبح لسنوات أهم أولوياتي، لكن ممارستي للطب، كمهنة و مواجهتي اليومية للألم و المعاناة البشرية جعلتني ألمس هشاشة الكائن من جهة و تخوم الطب من جهة أخرى.. جعلت حاجتي أكبر لغذاء روحي..و لوهم بالخلود.
وحده الشعر – والإبداع عموماً – يمنحنا الإحساس بأبدية اللحظة.
ثم إن طبيعة تخصصي (في طب الأطفال) جعلتني أقرب ما أكون من عالم الإبداع.. من عالم التلقائية، فالمبدع يقتات من الألم ويحتاج إلى أن يغوص عميقاً في طفولته.. في وجعه الأول، يحتاج إلى أن يحتفظ بدهشته الأولى.. دهشته الطفولية.
وحول روايتها الأولى “لحظات لا غير” تقول فاتحة مرشيد: إنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى الأكاديمي للكلمة، لكنني لا أستطيع نفي وجود بعض من ذاتي بين سطورها، وأستطيع أن أقول عن شخصية الراوية الأساسية:”أنا الطبيبة والشاعرة معاً”، وقد يتسرب شيء من ذاتي في الشخصيات الأخرى.
وحول تكوينها الثقافي والأدبي تقول الشاعرة فاتحة:
ج: “كوني لم أتلق تكويناً منهجياً في ميدان الأدب خلف لدي إحساس بنقص ما.. الشيء الذي جعلني ألتهم الكتب التهاماً، بكل أنواعها وأشكالها، بالعربية والفرنسية.. مؤمنة بأن كل قراءة تضيف لنا شيئاً.
أما عن التجارب التي تعجبني، فهي كل تجربة تجعلني أحسُّ من أعماقي بما قاله فرناندو بيسوا عن الأدب:”الأدب هو الدليل على أن الحياة لا تكفي”.
وهنا تكمن جدوى ما قد يبدو للوهلة الأولى غير أساسي للحياة مثل الفن والشعر والموسيقى وغيرها.. لأن هذا ما يجعل الإنسان في مرتبة أعلى من الحيوان لأنه وحده قادر على الإبداع”.
وتقول فاتحة مرشيد:
ج: إن لفضاء الطفولة فضلاً علي، ولو أن علاقتي بالقصيدة سبقت الطب وتعود إلى مرحلة طفولتي الخاصة.. أعتقد أن اختياري لطب الأطفال كاختصاص لم يكن عفوياً، فنحن لا نستطيع الوقوف أمام آلام الأطفال دون أن نصنع شيئاً، و المبدع عموماً يستلهم من الطفولة، فما بالك إذا كانت هذه الطفولة تتألم..لن أبالغ إذا قلت إن الشعر هو الفن التعبيري الأقرب إلى الطفولة، إنه مثلها طافح بالتلقائية و الانفعال.
والشعر بالنسبة لي أنبوبة أكسجين تمكنني من أخذ نفس كلما ضاق نَفَسي، تمكنني من سبر أغوار الغامض في كوامني.
الشعر و الكتابة بصفة عامة تمكن من المصالحة مع الذات أولاً و مع الآخر ثانياً..و تقول: ليست لي طقوس خاصة، ولا أبرمج لكتابة الشعر..الكتابة عندي نتيجة انفعال داخلي، و أنا أكتب كلما اصطخب شيء في نفسي..لا أشتغل على اللغة أساساً، بل أجدني أكتب كلما جرفني دفق من الأحاسيس، كلما شعرت بالكلمات تستحثني، كلما حاصرتني الكلمة.
طبيعة تكويني العلمي تجعلني أتعامل مع الكلمة باختصار شديد بدقة.. أحسها فأترجمها على قدر هذا الإحساس.. أحب القصيدة الرشيقة.
وعن كونها تعيش في مدينة كبيرة وصاخبة كالدار البيضاء تقول فاتحة مرشيد:
ج: ” لا أتصور نفسي أعيش في مدينة صغيرة هادئة، أنا أحب الصخب، كما لا أتصور نفسي أعيش دون بحر، والدار البيضاء تمنحني كل التناقضات التي تغذي كتاباتي”.
وعن تفتحها وسريتها ودهشتها مع الكتابة منذ البدايات إلى الآن تقول الشاعرة المغربية:
ج: “بدأْتُ الكتابة منذ الصبا الأول، وترعرعت علاقتي بالشعر في حضن السرية التامة كما عبرت عن ذلك في الإيماءات :(ككل الصبايا.. أخفيت تحت القميص كتاباتي كبعض عرائي…).
دامت فترة السرية سنوات طويلة، تزامنت مع مرحلة الدراسة في الطب وبعدها التخصص، وكما أن لكل مرحلة في حياة الإنسان أولوياتها، لم تكن فكرة النشر والعبور نحو الآخر من أولوياتي، ومنذ سنوات قليلة فقط، كما لو ضاق القميص بكتاباتي، ابتدأت فكرة الانكشاف أمام الآخر تنضج بداخلي.
فكان يلزمني ثقة حتى أقتحم الوسط الأدبي وأتجاوز إحساسي بأنني دخيلة، لكن صدور ديوان “إيماءات” – والصدى الجميل الذي خلَّفه عند القارئ والنقاد – أعلن جهراً على انتمائي إلى عالم الشعر والإبداع”.
وعن بروز الحس الإيروتيكي في شعرها تقول:
ج: “كوني طبيبة تجعل علاقتي بالجسد شفافة، خالية من كل خجل مصطنع، وكوني شاعرة يجعلني ألمس كل الأبعاد الأخرى للجسد بدءاً بجسد القصيدة، والعري الذي تتطلبه الكتابة ككل، وعموماً الشعر عشقي الأبدي.. كوتي وسط الظلام.. ملاذي ومنفاي في آن.. كل قصيدة بداية، ولا تعنيني النهايات مادامت كل نهاية احتمال بداية أو بدايات».
“المرأة اليوم” مجلة
، 29 مارس 2007 العدد 311