حوار مع الأستاذ خالد درويش
جريدة الجماهيرية الليبية
س – عن بدايات الشاعرة فاتحة مرشيد ، ماذا تقولين ، متى بدأت الكتابة وكيف استطاعت أن تثبت حضورها في زمن لم يعد للشعر فيه ذلك الحضور
الفاتن ؟
ج – بدأتُ الكتابة منذ الصبا الأول، وترعرعت علاقتي بالشعر في حضن السرية التامة كما عبرت عن ذلك في الإيماءات: ( ككل الصبايا/أخفيت/تحت القميص/كتاباتي/كبعض عرائي…)
دامت فترة السرية سنوات طوال، تزامنت مع مرحلة الدراسة في الطب وبعدها التخصص. وكما أن لكل مرحلة في حياة الإنسان أولوياتها، لم تكن فكرة النشر والعبور نحو الآخر من أولوياتي. ومن سنوات قليلة فقط ، كما لو ضاق القميص بكتاباتي، ابتدأت فكرة الانكشاف أمام الآخر تنضج بداخلي.
فكان يلزمني ثقة حتى أقتحم الوسط الأدبي وأتجاوز إحساسي بالدخيلة. لكن صدور ديوان “إيماءات” – والصدى الجميل الذي خلفه عند القارئ و النقاد- أعلن جهرا انتمائي إلى عالم الشعر والإبداع.
س – المتتبع لنصوصك يجد أن علاقتك بالجسد علاقة ليست فيها مواربة ، بل فيها الكثير من الفضح والبوح ؟
ج- كوني طبيبة يجعل علاقتي بالجسد شفافة، خالية من كل خجل مصطنع. وكوني شاعرة يجعلني ألمس كل الأبعاد الأخرى للجسد بدأً بجسد القصيدة، والعري الذي تتطلبه الكتابة ككل.
وعلى كل فالمصالحة مع الجسد ضرورية لتوازن الكائن ولا يمكن أن تتم دون محاكاته والتعبير عنه.
س – لماذا إيماءات ، ومتى يكون الورق عاشقا ، عن هذين الديوانين ماذا تقول فاتحة مرشيد ؟
ج- ” إيماءات” لأننا نخرج بأول تجربة على رؤوس الأصابع، نومئ ولا نبوح.
مثقلين بإرث ثقافتنا العربية التي هي ثقافة إيماء وليست ثقافة بوح.
إيماءات لأنها وليدة مرحلة السرية، مرحلة التعثر بالذات، فالنصوص قد كتبت على مسار سنوات (تضم نصوصا كتبتها وأنا في السابعة عشر من عمري).
إيماءات كتجربة وكتعبير عن معاش كان لها فضل العلاج النفسي علي، فقد صالحتني مع نفسي مع الماضي ومع الآخر.
أما عن متى يكون الورق عاشقا ؟ فأقول حين يعكس تجربة الحاضر، بنضجه، بعمقه وجرأته. حين يتجاوز مرحلة الإيماء ليقتحم البوح مؤمنا أنه لا إبداع بدون حرية.
حين يعي أن عناصر الإبداع لا فصل بينها فيتغذى من التشكيل، ويحاور اللون
كما يحاور البياض.
الجديد في تجربة ورق عاشق هو هذا الحضور المزدوج للشعر والتشكيل. الفنان أحمد جاريد أضاف لي الكثير فقد ارتقى بالكلمة وجعلني ألمس حدود اللغة عن قرب.
س – تقولين في بعض نصوصك
( إن كان الشعر ، كحبك
يفتح كوة وسط الظلام
كم يلزمني من معلقة لأقهر هذا الدمس )
فكيف يكون الشعر حالتك الخاصة ، وهل هو بداية أم نهاية ؟
ج- الشعر عشقي الأبدي.. كوتي وسط الظلام.. ملاذي ومنفاي في آن.
كل قصيدة بداية. ولا تعنيني النهايات مادامت كل نهاية إحتمال بداية أو بدايات.
س ــ في ديوانك ( ورق عاشق) ومنذ الصفحات الأولى يطالعنا رجل ما ، ليتمحور الحب كموضوع أصيل ووحيد في كافة القصائد مع عد م إغفال الجمال ، فثمة اصطياد للحظات مقطرة من الحياة ؟
ج- في المجموعة الأولى لورق عاشق (التي تحمل نفس العنوان) حاولت سبر أغوار الرجل، هي يوميات رجل عاشق ( ومن ثم صيغة المذكر) يتوجه إلى محبوبته في لحظات مختلفة من العلاقة. لذا تجد الحضور والغياب، التراضي و العتاب، الألم والنشوة… كل المكونات المتناقضة لعلاقة حب.
الحب لا جنس له. وكل منا يحمل داخله الجنسين معا، وأنا حررت الجنس الآخر داخلي ومنحته حرية التعبير ومنحتني عبره مساحة أرحب للبوح.
س – هل يكون الطب ومعالجة ألام البشر عاملا مساعدا في خلق حساسية أخرى لدى الشاعر وأنت التي تمارسين هاتين المهنتين ؟
ج- أعتقد أن الطب هو من أقرب المهن للشعر. فممارسته اليومية تعمق إحساسنا بآلام الآخرين، حيث نلمس عن قرب جراحهم ونزيفهم الداخلي. كما أن الألم يجعلنا نتعرف على أنفسنا أكثر، يجعلنا أكثر إنسانية.
الإبداع بصفة عامة يتغذى بالألم، بالقلق وبالأسئلة.
أحس كذلك أن عملي كطبيبة أطفال قد أعاد إلي بعضا من طفولتي ودهشتي الأولى. وهكذا أجدني بين عالمين ضروريين للإبداع: الألم والطفولة.
س – ألاحظ أنك تهربين إلى النفس القصير في القصيدة ، فهل هي عندك وريقات تزينين بها الكتابة مع الحفاظ على القافية ، فهل هو منهج تلتزمين به في كل كتاباتك أم أنها وخزات طبيبة متمكنة
ج – قد يكون تكويني العلمي هو الذي يجعلني أتعامل مع الكلمة بدقة وباختصار، وأنا أحب القصيدة الرشيقة ، أميل إلى التكثيف والقليل الذي يقول الكثير، إلى بلاغة الصمت بين الكلمات. ولكن هذا لم يمنع وجود القصيدة ذات النفس الطويل في المجموعة الأولى من ديوان ورق عاشق وكذا قصيدة “رسائل إلى أمي” في ديوان إيماءات.
س ــ المغرب ثقافيا صار اليوم أحد ركائز الثقافة العربية برموزه المعروفة ودفعه للساحة الثقافية برواد في مجالات كثيرة في الشعر والرواية فمن بين هذه الكوكبة تأثرت فاتحة مرشيد وكيف كان لهذا الجو تأثيره على شعرها ؟
ج – يقول بورخيس ” أنا كل الكتاب الذين قرأت لهم، كل الناس الذين قابلتهم، كل النساء اللواتي أحببتهن…”
كل قراءة تضيف لك شيئا، وكل علاقة تضيف لك شيئا.
كل نص هو سليل نصوص أخرى سبقته.
والشاعر يمتص الجميع لينتج رحيقه الخاص.
ضروري أنني تأثرت بمن قرأت لهم. لكن يبقى الشعر عملية فردية وقصائدي تنتمي بالضرورة إلى ملامحي الشخصية والجماعية. كلنا نستفيد ممن سبقونا نستفيد من التراث العربي و العالمي ككل.
صحيفة “الجماهيرية الليبية” 18/17 من شهر الفاتح 1372 ,و.ر