الشعر حصانتي ضد التلوث الوجداني والنفسي
يلتقي جمهور بيت الشعر ظهر اليوم الخميس 7 أبريل 2005 ، الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد في حوار حول تجربتها الشعرية. والشاعرة فاتحة مرشيد طبيبة أطفال تمارس الكتابة الشعرية منذ سنوات بالتوازي مع اختصاصها الطبي، أصدرت “إيماءات” و “ورق عاشق” وهي كما قال الشاعر حسن نجمي عن مجموعتها إيماءات: إنه دفتر شعري مثقل بالرعشات، بالأنفاس الدافئة، بالحدوس وفيه تكتب عن الحب، عن غبار الذاكرة، عن الحضور والغياب..
حاورها: نور الدين بطيب
س: ما الذي تعنيه الكتابة بالنسبة إليك؟
ج: هناك مقولة للشاعر ميركا كارتارسكو تعبّر بدقّة عما تعنيه كتابة الشعر بالنسبة إلي. يقول فيها: “الشعر أنبوبة أوكسجين أثناء الغوص يمكن كتم النفس لفترة قصيرة، لذلك فنحن بحاجة إلى أنبوبة أوكسجين حتى نغوص إلى داخلنا بأمان”.
الشعر يُمكّنني من تجديد نَفَسي وسط التلوث الذي يهدد الكائن والمجالات الرمزية. يمكّنني من سبر أغواري، من إعادة ترميم ذرات الطين بدواخلي.. ُيمكّنني من المصالحة مع ذاتي ومع العالم.
وكطبيبة أؤمن بالكلمة البلسم، فللكتابة فعل العلاج النفسي على الكاتب وقد يفلح القلم حيث أخفق المشرط.
س: هناك حديث كبير عن موت الشعر وعن أن الرواية هي مستقبل الأدب العربي. كيف تنظرين إلى هذه المقاربة؟
ج: الحاجة إلى الشعر أزلية، وأظن أن الإنسانية في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للشعر، للرواية، للمسرح، للسينما،.. لكل ما يحصّنها ضد العنف، والدمار الروحي، والبؤس الوجداني. لا تفاضل بين الشعر والرواية. ويبدو لي أن مستقبل الأدب في النهوض بكل أشكال التعبير الإنساني، من تحريرها من كل رقابة أو حصار إيديولوجي. في جعلها غير خاضعة لحدود المحلي الضيقة.
لا أصدق أن هناك أزمة تهدد الشعر بالانقراض، كل ما هنالك أن الشعر يمر من مرحلة انتقالية. الكل صرخ أن الشعر يحتضر خلال المرحلة الانتقالية من الكتابة الكلاسيكية إلى الكتابة العمودية. فولادة تجربة جديدة تمر عبر مخاض وأزمات. القصيدة الآن تتحرر، لم تعد مرتهنة بقضية أو بخلفية معينة. ولكل عصر فنه، وشعره، وروايته التي تعكس بالضرورة اهتماماته وهمومه ومشاعره.
س: قصيدة التفاصيل هي الطاغية الآن على المشهد الشعري في العالم العربي. كيف تنظرين إلى خصوصيات الكتابة في تجربتك الشعرية.
ج: أتساءل: هل هناك كتابة خارج الخصوصية؟ وهل يعرف الكاتب خصوصيته؟ وكيف أكون موضوعيا حين أكون أنا الموضوع على حد قول نزار؟
ربما ما ندعي معرفته هو كما في المثل الصيني: “المكان الأشد ظلمة يقع دائما تحت المصباح”.
أظن أن تصنيف الشعر والوقوف عند خصوصيات كل تجربة هي مهمة الناقد. ومع ذلك أقول أنني بحكم تكويني العلمي أميل إلى الاختصار والدقة في اختيار الكلمة، أميل إلى القصيدة الرشيقة وكأني بذلك أحارب السمنة الشعرية إن صح التعبير.
س: عدد كبير من الكتاب جاؤوا من الطب. ماذا أضاف الطب إلى تجربتك الشعرية؟
ج: من المؤكد أن كلا من الطب والشعر قد أضافا لبعضهما البعض شيئا ما. فالطب عمق إحساسي بآلام الآخر. جعلني ألمس عن قرب تخومه الجسدية والنفسية ونزيفه الداخلي. وعندما يكون هذا الآخر طفلا (بحكم اختصاصي في طب الأطفال) فهو يعيدني حتما إلى طفولتي الخاصة، إلى دهشتي الأولى ووجعي الأول.
المبدع يتغذى من الألم ويحتاج أن يغوص عميقا في طفولته وحواسه البدائية. ويبقى عالم الطفولة قريبا جدا من الشعر طافحا مثله بالانفعال والتلقائية.
أما عما أضافه الشعر للطب؟ فهو بالتأكيد جعلني أكثر إنسانية في تعاملي مع الآخر، عمق حدسي وجعلني لا أخجل من قول: “لا أدري” أمام حالات معينة.
يحدث أن أقف ككل الأطباء عاجزة أمام حالات مرضية الشيء الذي يقوي إحساسي بالطابع المؤقت للوجود! حينها يمنحني الشعر الوهم الجميل بأبدية اللحظة.
س: بعد الشعر هل تكتبين الرواية أو النقد أو المسرح، وكيف ترين علاقة الشاعرة بالفنون الأخرى؟
ج: نحن لا نقرر أن نكون شعراء، أو روائيين أو موسيقيين، أو فنانين تشكيليين.. كما لا نقرر أن نكون عشاقا. كوني أكتب الشعر ليس اختيارا واعيا، فهو بالتأكيد الجنس التعبيري الأقرب من تركيبتي النفسية، العقلية والإبداعية. الرواية تتطلب نَفسا طويلا وأنا لست من النوع الماراطوني. أنا صاحبة المسافات القصيرة، صاحبة الحِدّة بامتياز. وربما لهذا السبب تأتي كتاباتي متشذرة. مع ذلك أنا عاشقة للرواية أقرأها أكثر مما أقرأ الشعر بل إن كتاباتي تتغذى من الرواية.
لي بعض المحاولات الخجولة في القصة القصيرة والمحكيات قد أطورها عندما يحين أوانها.
أما عن علاقتي بالفنون الأخرى فهي كلها حاضرة في حياتي اليومية وأحتاجها لتطهير وجداني وروحي وهي تثري حتما كتاباتي.
أنا حريصة على حضور الموسيقى في رحاب الشعر، وأحب أن تكون قراءاتي مصحوبة بعزف موسيقي، ليس لأنها تملأ فراغا تركه الشعر، ولكن لما تشكله من ثراء وجداني للمتلقي، ولكونها تجعل اللحظة الشعرية تحلق عاليا.
أما علاقتي بالفن التشكيلي فتجربتي المشتركة مع الفنان المغربي أحمد جاريد في ديوان “ورق عاشق” وفي حقيبة فنية تحمل نفس العنوان، جعلتني أدرك أنه لا فصل بين عناصر الإبداع، فهي تتقاسم نفس الهاجس ونفس القلق، وتقتات من بعضها البعض. فقد تمنحك قصيدة لوحة أو تقودك رواية إلى قصيدة..
س: ما الذي تعرفينه عن المشهد الأدبي عامة والشعر خاصة بتونس؟
ج: كوني جئت الشعر من عالم غير الأدب، خلق لدي إحساس بأنني قد تخلفت عن إيقاع الآداب بعمر، الشيء الذي جعلني أقرأ بنهم كل التجارب التي تقع في متناول يدي، لأتغلب على إحساس الدخيلة الذي لازال يلازمني. فمهما قرأت من تجارب تونسية يتهيأ لي أني لا أعرف عن المشهد الأدبي التونسي إلا القليل.
وأود أن أشير هنا إلى مشكل حقيقي يعاني منه كل من القراء المغاربة والتونسيين هو مشكل التوزيع. فمثلا بالنسبة للشعر فقد بحثت كثيرا في المغرب، دون جدوى، عن تجارب تونسية ولولا مجيئي تونس من أربع سنوات في إطار مؤتمر مغاربي لطب الأطفال وزيارتي بالمناسبة لبيت الشعر التونسي، حيث تعرفت على مديره الأستاذ منصف المزغني الذي زودني بمجموعة من الدواوين، لما استطعت الاطلاع على الكتابات التونسية الجديدة التي أمتعتني كثيرا.
لكلتا التجربتين التونسية والمغربية نقط التقاء، فالمرجعيات الثقافية والاجتماعية واحدة. وهناك حركة أدبية وفكرية نشيطة في تونس، والأسماء الشعرية الوازنة معروفة بصورة جيدة في المغرب، خاصة في الوسط الأدبي.
إلا أن هذا الوضع لا يرقى إلى مستوى الطموح، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار رؤية شمولية لدور ومكانة هذا الأدب، تأخذ بعين الاعتبار القضايا المتعلقة بالنشر والتوزيع، إلى جانب إدماج المكون الأدبي المغاربي في المناهج الدراسية التعليمية، لأن الأدب، والشعر خاصة، إذا كان يتغذى بالإبداع، فهو يتغذى كذلك بتوسيع قاعدة القراء، وبالارتقاء بالذوق الفني لدى المتلقي.
جريدة “الشروق” (تونس)، العدد 5305، السنة 15، 7 أبريل 2005