الشاعرة والطبيبة المغربية فاتحة مرشيد: المصالحة مع الجسد ضرورة للتوازن
ترى نفسها فراشة ونافذة ومقعدا.. ورجلا!
في ديوانها الجديد ( ورق عاشق ) فاجأت الشاعرة المغربية فاتحة مرشد الجميع بانسلالها خارج الأنوثة، حيث تقمصت صوت الرجل، وتلبَّست نبرته العاشقة، ليس في تبادل طريف للمواقع بينهما، ولكن في محاولة للتماهي التام بالرجل وإعادة اكتشاف ذات المرأة جسدا وروحاً من خلال نظرته.
قبل ورقها العاشق الصادر عن دار الثقافة بالدار البيضاء، كانت فاتحة مرشد الشاعرة والأخصائية في طب الأطفال قد أصدرت مشاعرها الأول تحت عنوان (إيماءات). فيما صدر لها ديوانها الثالث عن دار شرقيات بالقاهرة تحت عنوان قوي ومشرق (تعال نمطر). أما ديوانها الرابع فقد صدر أخيرا عن دار مرسم بالرباط تحت عنوان (أي سواد تخفي يا قوس قزح؟).
فاتحة مرشد ليست صوتا معزولا ولا تجربة هامشية. بل هي واحدة من هؤلاء الشاعرات اللواتي اقتحمن الساحة الثقافية في السنوات الأخيرة بجرأة. قصائد بطعم الكرز، وعذوبة نسائية بدأت تتقدم بالتدريج في المشهد الشعري لتحرر القصيدة المغربية من بلاغة الخشب والصور الذهنية، وهما السمتان اللتان طبعتا شعرنا المغربي في العقود الأخيرة.
حاورها ياسين عدنان
1- تتعايش داخلك طبيبة وشاعرة. قد يكون هذا طبيعيا، ولم لا؟ إلا أنني أدعوك إلى التأمل في الطريقة التي تتفاعل بها هاتان الشخصيتان داخلك. هل تخترق الطبيبة فسحتك الشعرية أحياناً؟ وكيف تحقق الشاعرة حضورها داخل عيادتك؟ على أساس أن الشعر ليس مجرد قناع تنزعينه عن وجهك قبل أن ترتدي وزرة الطبيبة البيضاء؟
ج- من المؤكد أن كُلا من الطب والشعر قد أضافا لبعضهما البعض شيئا، فالطب مثلا عمق إحساسي بآلام الآخر، وجعلني ألمس عن قرب تخومه الجسدية والنفسية ونزيفه الداخلي، وعندما يكون هذا الآخر طفلا (بحكم تخصصي في طب الأطفال) فهو يعيدني حتما إلى طفولتي الخاصة، إلى دهشتي الأولى ووجعي الأول.
المبدع يتغذى من الألم، ويحتاج إلى أن يغوص عميقا في طفولته وحواسه البدائية. ويبقى عالم الطفولة قريبا جدا من الشعر، طافحا مثله بالانفعال والتلقائية.
أما عما أضافه الشعر للطب؟ فالشعر بالتأكيد جعلني أكثر إنسانية في تعاملي مع الآخر، عمق حدسي، وجعلني لا أخجل من قول ( لا أدري) أمام حالات مستعصية.
يحدث أن أقف ككل الأطباء عاجزة أمام حالات مرضية، الشيء الذي يقوي إحساسي بالطابع المؤقت للوجود، وبحتمية الاندثار. فيما يمنحني الشعر الوهم الجميل بأبدية اللحظة.
2- طبعا سؤالي كان واحدا من تلك الأسئلة التي نحاول أن نفكر عبرها في ذواتنا، الذات التي تبقى متعددة.. وهذا التعدد بقدر ما يعني الحيوية والتألق والقدرة على العطاء في أكثر من مجال، تبقى له مآزقه الخاصة. فقد يتحول أحياناً إلى عبء يصعب تدبيره. فحتى بالنسبة إليك، لستِ طبيبة وشاعرة فقط، فقد اشتغلت مديعة تلفزيونية، حيث قدمتِ لفترة برنامجا صحيا على القناة المغربية الثانية (دوزيم)، أنت أيضا أم وزوجة و…
ج : كل منا يحمل داخله شخصيات متعددة يحاول أن يعطي لكل منها حقها.
أنا لن أقول لك أنني “super woman” التي استطاعت أن تحقق التوازن بين كل هذه الشخصيات بفضل نظام صارم..لا.. نحن نحقق أشياء على حساب أخرى ونُرضي أشخاصا على حساب آخرين، وغالبا ما يكون هذا الآخر هو أنفسنا، ونتعامل طبق أولويات تختلف حسب الظروف. فأحيانا تضعف الأم، وأحيانا تثور الشاعرة، وأحيانا تطغى الطبيبة، وأحيانا كثيرة أقصر في حق الأنثى…
ولكنني أدركت، بفضل النضج، أنه لا يمكنني الاستغناء عن أي واحدة من هذه الشخصيات المتعددة بداخلي التي وإن كانت ترهقني أحيانا فهي تغنيني دائما. أدركت أنني أحتاج للطفلة بداخلي، للمراهقة، للأم، للشاعرة، للطبيبة، للأنثى..
وكل صباح عندما أستيقظ أحاول أن أجد توازنا بين كل هذه الشخصيات.
3- هذا التعدد الذي تحدثنا عنه قبل قليل يحضر بمقابله التخصص، أي التركيز وتكثيف المجهود في مجال واحد. وأنت مثلا أخصائية طب أطفال، وتعرفين أن التخصص صار اليوم قيمة عليا خصوصا في مجال البحث العلمي.. لكن ماذا عن الإبداع؟ هل يستوجب التخصص هو الآخر؟
ج- أكيد أن التخصص يخدم العلم والتكنولوجيا، لكن لا يمكنه أن يخدم الإبداع. فالتخصص يجعلك تعمل في مجال ضيق ويرسم لك حدودا، أما الإبداع فخارج الحدود، خارج التصنيف، وخارج الاختصاص. ذلك أن عناصر الإبداع لا حدود بينها، لها نفس المحرك، وتتغذى من نفس الهاجس ونفس القلق. الأدوات وحدها تختلف: فهذا يعبّر بالكلمة وذاك باللون والآخر يعبر بالصورة… كل يعبر بالوسيلة الأقرب إلى قلبه. وهناك مبدعون استطاعوا أن يعبروا بوسائل مختلفة… فتجده شاعرا وفنانا تشكيليا وغير ذلك… فتعدد وسائل التعبير لا يمكن إلا أن يغنيه.
الأمر يختلف بالنسبة إلى الناقد، فهو يحتاج إلى تصنيف واختصاص حتى يضبط أكثر دراساته وأبحاثه.. الناقد باحث والباحث كلما تخصص أكثر تقدم أكثر..
أما الإبداع فهو حرية مطلقة ويجب أن يظل كذلك.
بل أبعد من هذا، ففي كل وفاء لعمل إبداعي خيانة للمبدع.
4- دعينا نعد إلى ديوان “ورق عاشق” لنتساءل عن استعارتك لصوت الرجل في هذا العمل الشعري. هل يمكننا اعتبار ذلك استفزازا للرجل وهجوما على مجاله التخيلي والاستيهامي؟ هل هو تحد نسواني شرس؟ أم هو صنيع صادر عن الأنوثة ذاتها؟ أنوثة غامرة فاضت على ضفاف السريرة لتمحو الحدود بين المذكر والمؤنث؟
ج– الكتابة كما المعاناة لا جنس لها، أما الكاتب ككائن بشري، فهو يحمل الجنسين معا، وهذا مؤكد من وجهة نظر علم النفس.
وأنا أكتب بصيغة المذكر أحرر الآخر بداخلي، أعطيه حقه في التعبير وأتحرر عبره.
هذه ليست تجربة جديدة بدليل أن هناك كتابا ذكوراً أبدعوا بلسان المرأة كنزار قباني ومبدعات نساء أبدعن بحس ذكوري رائع كأحلام مستغانمي وغيرهم.
أما عن السؤال لماذا؟ فهذا لم يكن مقررا ولا يمكن أن أجيبك بالضبط لماذا كتبت بصيغة المذكر. كل ما يمكن لي قوله هو: وأنا أكتب بصيغة المذكر اكتسبت فضاء جديدا وحرية أكبر في البوح… اكتسبت رئة ثالثة.
5- بعد تماهيك بصوت المذكر في (ورق عاشق)، كتبت ديوانا كاملا صدر في اآونة الأخيرة عن دار (مرسم) تحت عنوان (مذكرات لوحة) بعنوان فرعي جميل: ” أي سواد تخفي يا قوس قزح؟”.. مرة أخرى تصير فاتحة مرشد مجرد لوحة تناجي رسامها، لكنها مناجاة من نوع خاص، فالعلاقة بين اللوحة والفنان في ديوانك علاقة غواية وإثارة متبادلة، بل هي علاقة عاشق بمعشوق. فهل كنت في هذا الديوان مجرد لوحة؟
ج- أتمنى أن أكون قد نجحت في أن أكون لوحة إلى أبعد حد. فالديوان يحمل نظرة فلسفية للعلاقة التي تجمع بين اللوحة والرسام.
أضنني كنت لوحة في “مذكرات لوحة”، كما كنت رجلا في “ورق عاشق”، وفراشة في “هسيس الفراشات” وأريكة ومقعدا وكأسا ونافذة… في “أشياء الغياب”. أنا كل هؤلاء وهؤلاء أنا.
المبدع يتناسخ في أرواح الآخرين سواء كانوا كائنات حية أم أشياء جامدة، كما ينقل روحه إلى أرواح أخرى. عند لافانتين Lafontaine مثلا تجد نوعا من التماهي التام بين روح المبدع والحيوانات التي يتكلم باسمها.
6- في ديوانك الثالث الذي صدر بالقاهرة عن دار (شرقيات) اخترت عنوانا جميلا وموحيا وهو (تعال نمطر). ماذا تقصدين بالمطر؟ عموما الأمر لا يتعلق بمطر السماء المعروف، لكن بمطر آخر صادر عن الجسد ربما، إذن، كيف يمطر الجسد في قصيدتك؟
ج- تعال نمطر هو نداء للحياة، للحب، للتواصل، للتسامح.. في عصر يهددنا فيه الجفاف العاطفي والوجداني والروحي.
هل الجسد يمطر في القصيدة؟ بالتأكيد، فلا يوجد إبداع خارج دائرة الجسد من وجهة نظر التحليل النفسي. كما أن الكتابة بمعناها الأدبي والنقدي تكتب الجسد، جسد الإنسان.
ونحن ككتاب نعيد من خلال جسد الكتابة، جسد الورقة، جسد القصيدة أو النص، بناء أجسادنا الخاصة والأجساد التي تسكننا، بدأ من الجسد الذي أنجبنا : جسد الأم.
أود أن أضيف أنه من الناحية الطبية تعتبر المصالحة مع الجسد ضرورية، لتوازن الكائن، وكذا للمصالحة مع الآخر، وهي لا تتم دون محاكاته والتعبير عنه.
7- (التهمة: شاعرة) هذا عنوان قصيدة لك. فبأي معنى يصير الشعر تهمة بالنسبة إليك؟
ج- أكيد أن الشعر تهمة، وهي من أجمل التهم ومن أقدمها. فالشعراء في التاريخ حوكموا واغتيلوا لأنهم اقترفوا الشعر. الشاعر في الحكاية هو ذاك الطفل الذي صرخ في موكب حفل السلطان “انظروا إنه عار”، هو الجريء الذي يقول مالا يجرأ على قوله الآخرون وهذه جرأة يحاسب عليها. الشعر يمنحك حرية، والحرية ككل القيم الكبيرة لها مُصادروها ومُعادوها، الشعر يمنحك رئة ثالثة، كما سبق أن أشرت، والشاعر متهم باستهلاك قدر أكبر من الأوكسجين.
لا شك أن التهمة تلبسني ككل الشعراء والشاعرات، وكل ما أتمناه هو أن ألبسها عن جدارة واستحقاق..
مجلة دبي الثقافية، العدد 17، 17 أكتوبر 2006