الأستاذ توفيق مصباح
-1-
حين تغلق الطبيبة عيادتها وتودع “أطفالها”، فاعلموا أن قوة الشعر “القاهرة” هي التي نادت عليها.
” الشاعرة” التي تسكن في روح فاتحة مرشيد لا تستطيع أن تقاوم حتى إغراء “دعوة” إلى رحلة “شعرية” في العالم “الأقصى”. امرأة استثنائية تَتَصارعُ داخلها مجموعة من الشخصيات والأصوات، لكن صوت الشاعرة هو الذي يعلو جميع هذه “الإيماءات”. كلمة الشاعرة هي التي تملك “السلطة” و”السطوة“!!
طبيبة وشاعرة وروائية وقاصة وعاشقة للفن التشكيلي ومولعة بالموسيقى الكلاسيكية. كل هذه العوالم تكوّن شخصية فاتحة مرشيد “الرقيقة”.. تجعل منها مجموعة “أرخبيلات” و”جزر“.
امرأة “ناعمة” و”دافئة” المشاعر والأحاسيس
تهرب من الأضواء، وتكره “الصخب“
تتسلّل من الأماكن المغلقة
تفضّل أن تكون موجة في محيط أزرق
سماءً معلقة في الأفق
نورسا بمجذاف يبحر في الأعالي
ضحكة طفلة في يوم العيد
حين اقترفت “الرواية” بفضول مغامرة لا تهاب المخاطر، كانت مستعدة وجريئة ومصممة على اقتحام “أدغال” السرد بخشونته وعناده وتمرد شخصياته.
الشعر لغة “الحرير”.. لحظات من الصفاء والإشراق.. الشاعر مثل الكاتب على زجاجة ندية وشفافة وكاشفة.. الشعر قطعة من الحلوى والآيسكريم وعجينة من المشاعر الطافحة.
الرواية “مغص” و”غثيان” و”قيء” و”اشتباكات” وحقول “ديناميت” قابل للانفجار.
كيف استطاعت، هذه الشاعرة/الروائية بمبضع “جرّاح” الطبيبة أن تقيم عملية “تجميلية” لتصنع منها كائنا “فرانكشتانيا” بمُسوح جميلة؟ كيف استطاعت أن تُروّض وحوشها السردية وتتحايل على “جنّياتها” الشعرية، لتبنيَ “طبقات” تخييلية متموجة؟ كيف تعبر من نافذة إلى أخرى، وتمشي بسلاسة على جسر مترنّح؟
-2-
في البداية كان البوح “شعرا”، وكان “الوحي” قصيدة، وكانت “الفاتحة” ديوانا و”إيماءات”، ثم تناسلت الأسماء والعناوين من رحم لا يجفّ شعرا… سبعة دواوين، أهمها “ما لم يقل بيننا” الفائز بجائزة المغرب للشعر. الجائزة أحيانا “إكليل” اعتراف واستحقاق معا، خاصة إذا طرقوا بيتك وأنت في عزلتك وفي “جزيرتك” ليضعوا تاج الشعر فوق رأسك. لم تكن في حاجة إلى “مكبرات” صوت أو “هرمونات” و”عقاقير” نقدية لتصبح “قامة شعرية”. لا تنتمي إلى “نقابة الشعراء” أو “قبيلة الكُتّاب”، لا تسكن في “بيت الشعر”، بل القصيدة تسكن فيها.
شاعرة بلا بطاقة هوية، بلا عنوان، بلا شهادة ميلاد. ملاذها الكلمة.. وبيتها القصيدة.. وهويتها الشعر.. هي شاعرة وكفى، والباقي مجرد تفاصيل صغيرة. لكن ما الذي قادها إلى أن تستعير “مخالب” الرواية، هل من أجل “متعة” السرد؟ هل هن “ملهمات” الكاتب التي تلبس “الشاعرة” قناعه في الرواية؟ الخروج من “عشّ” الشعر الدافئ إلى “كيمياء” الرواية هل يعني الخيانة “الجنسية” أم الامتداد في متاهات الحكاية، لتستكمل ما لم تقله في الشعر؟
القلب الذي تكتب به الشعر بلغة وردية حالمة هو القلب الذي تنزعه حين تكتب الرواية. بلغة غير مهادنة وشخصيات متشظّية وحكايات محدّبة، هي ملامح دولابها الروائي الذي تضع على رفوفه “لحظات لا غير” و”مخالب المتعة” و”الملهمات” و”الرحيل” و”التوأم”. من هذا الدولاب تسمع “هسيس” الشخصيات، لا ليس هسيسا، هو بالمعنى الدقيق “أنين” خافت، ولا حتى أنينا، هو “صراخ” يُسمع بصوت واضح من الدولاب المفتوح.
-3-
الأطفال أحيانا يصنعون المعجزات.. نسغ الطفولة الذي يجري في دماء فاتحة مرشيد دفعها إلى نواصي الحلم واكتشاف العوالم والقارات المجهولة، جعلها باسم سلطة الشعر لأن تكون سفيرة الثقافة المغربية، وطائرا “نادرا” يحلق خارج السرب.
حتّى رحلاتها الشعرية هي رحلات “استكشافية” و”استثنائية” لما وراء المحيطات لأغوار الشعر النائية. ورحلتها الحالية إلى الهند هي رحلة إلى بلاد العجائب والمعابد والآلهة والنسّاك والكهنوت، ووطن أيقونة الكفاح المهاتما غاندي، وقبر “تاج محل”، وعاصمة الأساطير والأديان واستنساخ الأرواح، كأول شاعرة مغربية تنشد بالهند ترانيمها وترتل الشعر بروحها العربية وانتمائها المغربي العريق..
كل من يطرق عيادة فاتحة مرشيد المجاورة لفندق “لنكولن”، سيجد إعلانا صغيرا معلقا على الباب كتب عليه بأحرف بارزة “عذرا يا أطفالي، أنا بالهند في مهمة خاصة… لا تقلقوا سأعود إليكم عاجلا ومعي هداياكم“!!
الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم الخميس 4 يناير 2018،
العدد 11.822