حسن توفيق:
همست بسؤال: أي سواد تخفي يا قوس قزح؟
:لا يستطيع أحد، وبجرة قلم، أن يشطب ما تبعثه ايقاعات الشعر العربي من متعة في نفوس المتذوقين المرهفين، لكن عمر هذا الشعر طويل على امتداد قرون من الزمان، وقد كان هناك شعراء عرب كبار قبل ظهور الإسلام، منهم امرؤ القيس وزهير ابن أبي سلمى وطرفة بن العبد، واستمرت المسيرة الطويلة من بعد هؤلاء ما بين تقدم وازدهار أو تقليد أحمق وزخارف لا معنى لها، ولأن وجه الحياة يتغير في المظهر، كان لابد للشعراء العرب أن يبحثوا عن ايقاعاتأو تقليد أحمق وزخارف لا معنى لها، ولأن وجه الحياة يتغير في المظهر، كان لابد للشعراء العرب أن يبحثوا عن ايقاعات جديدة تتوافق وتتسق مع هذا التغير، وهذا ما تحقق في الأندلس – مثلا – من خلال ايقاعات المرشحات الأندلسية، وما تحقق في شكل ثورة فنية فيما بعد في العديد من اقطار أمتنا العربية على أيدي رواد ح
ركة الشعر الحر أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي وخليل حاوي ونزار قباني وصلاح عبدالصبور.
وإذا كان الشعر الحر يعتمد على ايقاعات لم تخرج عن اطار الشعر العربي المتوارث إلا في استخدام بحور معينة وهجر البحور التي تتداخل فيها التفعيلات (مثل الطويل والبسيط والخفيف) وعدم الالتزام بعدد ثابت ومعروف مسبقا بتفعيلات البحر الشعري، فإن موجة جديدة لم تعد تعتمد على الموسيقى المتحققة في الشعر العربي، وظهرت تسمية غريبة لها تتمثل في »قصيدة النثر« وفي ظل هذه التسمية الغريبة كتب مئات بل ألوف من الأدعياء والمتشاعرين ما كتبوا، كما كان هناك موهوبون وشعراء حقيقيون، لكنهم – في خاتمة الأمر – قليلون، بل نادرون، وممن استمتعت بتجاربهم في هذا السياق الشاعرة المغربية الدكتورة فاتحة مرشيد، والتي لفت نظري الى تجربتها في البداية الصديق الشاعر والكاتب شعبان يوسف.
من الدار البيضاء الى الدوحة، تلقيت مجموعتين جديدتين مما ابدعته فاتحة مرشيد، هما »تعال نمطر« و»أي سواد تخفي يا قوس قزح؟« وكنت قد قرأت من قبل مجموعتيها الأولى »إيماءات« والصادرة سنة 2002 والثانية »ورق عاشق« التي صدرت سنة 2003. وعلى ضوء قراءاتي لهذه المجموعات، فإني أعتقد أن جيل فاتحة مرشيد من الشاعرات العربيات أكثر جرأة في البوح من جيل الرائدات العربيات الكبيرات وعلى رأسهن نازك الملائكة وفدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي صاحبة الديوان الرائع الوحيد »العودة من النبع الحالم« ففي قصائد الرائدات روح رومانسية حالمة، فيها من الخجل الأنثوي ما فيها، مما يجعلها تخفي ما تخفي من تجارب حسية تخوضها المرأة باعتبارها أنثى، لها أهواؤها ورغباتها بل نزاواتها، وهذا ما جعل شاعرا عربيا كبيرا ينوب – دون قصد أو بقصد – عن شاعراتنا الرائدات في تصوير تلك التجارب الحسية.
على ضوء هذا يمكننا ان نقرأ ما أبدعته بنت الجيل العربي المغربي الجديد – فاتحة مرشيد – فالقاريء لهذه الإبداعات يلاحظ على الفور مدى الجرأة في البوح الأنثوي، كما يلاحظ ان التعبير عن التجارب والرؤى والمواقف يبدو مكثفا الى أقصى حد، وهذا التعبير المكثف هو الذي يؤثر في القاريء تأثيرا ايجابيا وكأنه مس كهربائي سريع ومتقطع، ولابد أن يكون كذلك والا أصبح خطرا محدقا بمن يتعرض لهذا المس الكهربائي.
في مجموعاتها »تعال نمطر« – ص 16 – تقول فاتحة مرشيد:
تتكىء، الوسادة على وجعنا
والسرير .. عبثا يصر
على طي المسافات
بينما يعانق كلانا
سفره السري
هنا – كما في نصوص اخرى – نجد مفردات مختلفة تماما عن المفردات المبثوثة في قصائد نازك وفدوى، من بينها »السرير« و »العرق« و »النهد« و »الجسد« .. و .. و .. بل ان ما قالته فاتحة مرشيد – بلغتها الجديدة – قاله شاعر كبير من جيل نازك وفدوى، لكنه هو ايضا لم يستطع ان يستخدم مفردات من طراز مفردات فاتحة مرشيد، حيث يقول خليل حاوي:
وجسم واحد يضمنا.. نفاق
كل يعاني سجنه.. جحيمه
في غمره العناق
اشراقات الروح وأشواقها هي وحدها التي كانت تتجلى في قصائد نازك وفدوى، الى جانب بعض الإيماءات الخاطفة لما تتعرض له المرأة العربية من كبت طويل لما يتفجر في اعماقها لأسباب اجتماعية عامة واخرى خاصة، اما فاتحة مرشيد فان اشراقات الروح واشواقها تمتزج او تتلاقى مع نداءات الجسد، حيث الرغبة المتأججة والنار المشتعلة، وهذا ما يتجلي – بصورة أكبر – في مجموعة »أي سواد تخفي يا قوس قزح؟« والتي صدرت باخراج جميل عن دار »مرسم« واذا كانت النصوص المكثفة البالغة التركيز والإيحاء مكتوبة باللغة العربية، فانها تتجاور مع ترجمة فرنسية لكل منها، قام بها عبدالرحمن تنكول، ومما تقوله فاتحة مرشيد في هذه النصوص:
> يدثرني صمته
تعريه بلاغتي
> الامس انحناءك المميت
على تعبي
فينتصب العمر كهلا
يحن إلى البدايات
> مؤلمة هي الشهوات
حين تغدق كاللهيب
على سجين الرماد
> تريدني بلسما لجرح من أخرى
أأعتذر عنها
أم أعتذر لجرح
من آخر
بنهدي يئن؟
هنا اتساءل : هل كانت فاتحة مرشيد تستطيع البوح بهذه الجرأة لو لم يكن وجه الحياة قد تغير عما كانت عليه ملامحه في زمن نازك الملائكة وفدوى طوقان، وهل كانت هاتان الشاعرتان ايضا قد استطاعتا التعبير عن تجاربهما الرومانسية لو انهما كانتا قد عاشتا في زمن عائشة التيمورية ورباب الكاظمي؟
الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، لكن وجه الحياة المتغير هو الذي يفرض ان تتغير ايقاعات الشعر وان تختلف طرق التعبير، وبعد ان كانت نازك وفدوى تقنعان بالتعبير عن اشراقات الروح، نرى فاتحة مرشيد توازن بدقة وشفافية بين هذه الاشراقات وبين نداءات الجسد.