هاشم شفيق
أعرف من النساء الشواعر المغربيات الجميلات كتابة وروحاً، وفاء العمراني، عائشة البصري، سهام بو هلال والشاعرة فاتحة مرشيد التي قرأت لها أكثر من كتاب في الكتابة المزدوجة شعراً وسرداً، وجديدها الآن “ما لم يقل بيننا” وهو مجموعة شعرية، مزدوجة اللغة، عربية وإنكليزية، صدرت عن «المركز الثقافي العربي» بيروت.
اللافت في هذا الكتاب هو البوح الرمزي المسفوح على الورق كمادة جمالية، تعبيرية تقال بصيغة الرؤى، أي الجهر الموارب الحامل تلميحات إيروتيكية، لها بصمة الحب، ذاك النداء الممرغ بالنبل، بعيداً عن الهاجس الأروسي، ذاك المغلف بلغة حسية مكشوفة، هدفها الإثارة وتفعيل الهاجس الغريزي لدى الكائن، إذاً لا كشف في هذه اللغة بل ثمة تورية، وطمس للمعلوم، لا مهانة هنا للجسد في كونه جسداً آدمياً ولا ذلّ للحاسة، وليس ثمة خنوع للهمسة والإشارة، وأيضاً لا انحناء هنا للمشاعر، انما ما لمسناه في تضاعيف هذا الشعر وفي نسيجه المتشابك التناغم الهارموني للجسد، هذا الجسد الذي له نغمته الفيزيائية مع الجسد الآخر، من طريق المماهاة في الشوق واستدعاء التلوين الرومانسي للمثنى، في ليلة حافلة بالشموع والمكابدة العشقية حيث «ملتاعة جئت لأمتزج بروح العطر… أين مني شمعة بجوار أظافر حمراء، لأقدام جاهزة لاستقبال الشفاه، كم ركع الليل لنا وكم تعب من جموحنا الضياء»( ص32).
أن المسعى الواضح في هذا القول هو الموجدة الطالعة من باطن حافل
بالأشواق والتشوّف والتطلع لملاقاة الجزء الآخر الذي من دونه لا يصنع
الحب ولا تتم الترجمة الجسدية لهذا الحب، إنه الحب المصاب بسهم كيوبيد والجريح بلوعة المحب، وللحب خصال قد تكون سالــبة أيضاً، قد يكون صانعاً للهجر والانقطاع والتباعد، فيقع الحبيب في عزلة لا إرادية تنال من قيمة الهوى وتحـط من فتنـته وولعه وتهجده السامي.
فهل الحب هنا ذهاب في البعيد، ورحيل في اللهفة وسفر في الإشارة
الصوفية لمعنى التجاسد كما تجسده الشاعرة في هذه الأبيات؟: «ذهبنا أبعد من الحب».
إن الحب الذي يفنى في الآخر، يولد الصور الغريبة التي تحفر في الأعماق وتتبع الابتهال الرؤيوي الناهض في الروح، كما يتوضح هنا «أتبع ماءك في تدفقه نحو الغد» فهو الصوت نفسه النازع الى المناجاة يتقدم ملتزماً بوصايا البوح والمناشدة والولوع بالآخر ومن هنا التساؤل «كم يلزمني من ريّ لأعمّد هذا الحب «ولصون الهوى وحفظ وعوده وعدم النيل من مساره الوجداني والمس بحكايته العاطفية». يبدأ الصوت يتعالى ويتردد، في كل نأمة وفي كل حركة وفعل…
«أعبر الجسر بصمت حصاة، تحفظ في صلابة وجع الحكاية».
إذاً، للحب دائماً حكاياه وأسراره وأحلامه وله الوجع والحرقة والدموع السريّة، خصوصاً حين يحل الغياب والبعد، أو المجافاة التي تقع وأنت في أوج الحضور المتجسد في كائنين ماثلين في أعالي الشوق، كما يجسده هذا النداء الحالم… «أعبّىُ حلمي في المرايا، كي أهتدي الى ملامحه وسط الزحام».
تُفيد فاتحة مرشيد في مجموعتها هذه، من تقنية وطريقة واسلوب فن الهايكو الياباني الشعري، الذي طغت جمالياته الفنية على الكثير من الأعمال الشعرية العربية، منذ نهاية العقد الأخير للقرن الفائت وحتى هذه الآونة، حيث نجد الجملة القصيرة، الضربة الباتة، التقطيع الصوتي المبتسر الذي يفي بالغرض الجمالي، والذي يؤدي بأناة مهمته النغمية، فضلاً عن جلاء الاستعارة ووضوح الكنايات، هذه التقنيات المتقشفة في بنيانها أفادت النص لدى فاتحة مرشيد بأنْ يتماسك وينشد مفضياً الى وظيفة دلالية، ألزمت النص بألا يتشعث وينفلت كما هو الحال الجاري في بعض النصوص النسائية العربية حيث تضيع البؤرة وتغيب البوصلة التي بمستطاعها ان تحدد الاتجاه الدلالي، هذه الرؤيا التعبيرية التي التزمتها الشاعرة في «ما لم يقل بيننا» ساعدت النص الموازي، الإنكليزي أن يتقبل اللغة الأخرى بوضوح ودراية وتدبير.
دار الحياة، الإثنين, 22 نوفمبر 2010
ksa.daralhayat.com