0%
Still working...

الدكتور محمد السجلماسي

الحلقة 15: غمزة قدر عمرها 15 سنة

بعد أن حصلت على شهادة الباكالويا سنة 1975، وضمن الجوائز التي قدمت لفاتحة مرشيد تثمينا لاجتهادها وتفوقها، كان كتاب “الفنون التقليدية في المغرب” للدكتور والكاتب محمد السجلماسي.

توقفت فاتحة عند الكتاب مليا، تتصفح صفحاته وتسائل لوحاته وحروفه لتكتشف المغرب الفني الغني بتراثه وتعبيراته لأول مرة ، قبل أن تغلقه لسنوات كان الحصول على الدكتوراه في الطب شغلها الشاغل حينها.

15 سنة بعد تتويجها بجائزة التميز بثانوية شوقي، ستتخرج الطبيبة اختصاصية في طب الاطفال (سنة 1990) لتلتحق بمستشفى الصوفي بالدار البيضاء(مولاي يوسف حاليا) قبل أن تحدث انعطافة مهمة في حياتها، ستغير كل الترتيبات التي خطتها الطبيبة المبتدئة في الميدان من قبل. سيطلب منها أستاذها البروفيسور عبد الرحيم الهاروشي بحكم ثقته في كفاءتها المهنية، تعويض أحد أطباء الأطفال، وهو من أعز أصدقائه، خلال عطلته السنوية. استجابت فاتحة لطلبه قبل أن تضرب موعدا مع الطبيب الذي لم تكن قد تعرفت عليه من قبل.

تحكي فاتحة عن لحظة دخولها لعيادته انبهارها بالفضاء المؤثث باللوحات التشكيلية لكبار الفنانين، بدت لها العيادة مثل متحف يفرد حيطانه للجمال وللسفر الملون. كانت رواقا تتربع فيه اللوحات التي رأت أنها ” لوحات تبدو كما لو عادت إلى رحمها الأصلي الذي جبلت منه: الطفولة والألم”.

تقول فاتحة: ” كان السجلماسي يحب مهنة الطب ويرفض أن يكون موظفا لديها بالمفهوم الذي ينزع عنك روح الاكتشاف والدهشة. هذه الدهشة التي كانت تؤثث جدران العيادة على شكل لوحات لفنانين احتضنهم كما احتضن آلام الطفولة. كانت عيادته معبدا للفن.. يولد الفرح من الصراخ ويعلن أن لا موت سوى موت الإحساس”.

أثناء حديثها مع الدكتور محمد السجلماسي، أسهب في الحديث عن كثرة تنقلاته وأسفاره من أجل تقديم كتبه، طالبا منها تعويضه أيام السبت صباحا بحكم انشغالاته. كانت ذاكرة فاتحة تشتغل بتقنية “الفلاش باك”.. لقطات ومشاهد تتحرك خاطفة قبل أن تضيئ صورة الكتاب

الذي تلقته 15 سنة من قبل أي سنة حصولها على الباكالوريا. لم تنتظر كثيرا لتسأله هل هو صاحب كتاب “الفنون التقليدية بالمغرب” فكان جوابه بالإيجاب.

أي قدر هذا الذي يقود خطاها بعناية إلى عوالم الكتابة والفن والجمال؟ !.

اعتبرت فاتحة هذه المصادفة الغريبة وما حدث لها بعد لقائه ، أن “كتابه – الهدية” لم يكن إلا غمزة قدر بأنها ستختار الطب مهنة وستتخصص بعد ذلك في طب الاطفال مثله لتجمعهما لوثة الكتابة وسقف العيادة التي ستصبح عيادتها الخاصة إلى اليوم، هي التي لم يكن ضمن حساباتها فتح عيادة أو الاشتغال يوما بالقطاع الخاص.

وجدت فاتحة في هذا الفضاء الضاج بالصمت الخلاق، ضالتها للغوص عميقا في ذاتها واستخلاص رحيق ألمها الذي كانت تبثه على ورقها العاشق في خلوتها بمكتبة العيادة التي جمع فيها الدكتور السجلماسي من كل المعارف نورا. كتب في الطب والفن التشكيلي والرواية، وعن التصوير الفوتوغرافي الذي كان مولعا به.

تتساءل فاتحة “أكانت صدفة أن أعود إلى الكتابة، حلمي الأزلي، وأصدر أول ديوان شعري فترة وجيزة بعد استلام العيادة؟ أهو نفَسُه الذي يملأ فضاءها من يُملي علي كتاباتي؟ أم أنها العدوى التي ينقلها لكل من حظي بمجاورته: عدوى حب القراءة وحب الفن وحب الحياة؟ أم تراه وهو يمنحني مفاتيح العيادة قد منحني مفاتيح ذاتي.. ذاتي المبدعة التي كانت في سبات”.

بعد ذلك سيطلبُ منها الاشتغال بنظام التناوب معه لضخ دماء جديدة في العيادة ، لكنها سترفض في بداية الأمر لكونها كانت تزاول بمستشفى سيدي الصوفي، ولم تفكر قبلا في الاشتغال في القطاع الخاص هي التي درست في التعليم العمومي إلى أن تخرجت دكتورة في طب الاطفال.

الحلقة 15: “أطباء بصموا المسار الطبي لفاتحة مرشيد/ الدكتور محمد السجلماسي: غمزة قدر عمرها 15 سنة”، الاتحاد الاشتراكي، الأربعاء 17 يوليوز 2019، العدد 89122.

الحلقة 16: عيادة تحرسها الجنيات وفردة حذاء     

في أحد الأيام، سيطلب منها  د. السجلماسي تعويضه في لقاء بالقناة الثانية لتقديم كتابه “دليل الأبوين” الذي صدر سنة 1993 وترجمه محمد الصغير جنجار إلى العربية، وقامت بمراجعة الجانب الطبي فيه، فوافقت، ليأخذها هذا اللقاء –  الذي تم خلاله اقتراح إجراء كاستينغ لها لأن القناة  كانت تحضر لبرنامج طبي –  إلى أضواء التلفزيون واستوديوهات التصوير.

لحظتها ستتصل بها هيئة الأطباء لجهة الدار البيضاء، ليس بسبب تقصير في أداء مهمتها بل لكونها تنتمي للقطاع العام ولا يحق لها التعامل مع قنوات إعلامية بالتلفزة أوالراديو، وهو شيء يقتصر على أطباء القطاع الخاص. الأمر الذي دفعها إلى تقديم استقالتها مقتنعة بأن ما تقوم به لا يمس بأخلاقيات المهنة بل إن عملها التوعوي الإعلامي يدخل في باب رسالتها الإنسانية،  هي التي تؤمن بأن “دور الطبيب لا يقتصر على التطبيب فقط ولكن على الوقاية كذلك، وهي تمر أساسا عبر التوعية الصحية للمواطنين”.

في هذه الفترة، اشتد المرض على الدكتور السجلماسي. وهو في غرفة الإنعاش طلب لقاءها، ليقترح عليها توقيع وثيقة أعدها لتتسلم العيادة مكانه. رفضت فاتحة الأمر واعدة إياه بأنها ستفعل ما يرضيه بعد عودته معافى من باريس.

عاش بعد هذه الواقعة عشر سنوات، وكتب خلالها أزيد من عشرة كتب، لكن حالته الصحية منعته من الاشتغال بالعيادة تجنبا للعدوى. 

هكذا استلمت فاتحة عيادة الدكتور السجلماسي الذي لاتزال ملاذها الروحي إلى الآن.

في سنتها الأولى بالقطاع الخاص(1998)، اقترح عليها مدير دار الإنتاج كوروم، السيد سيف مستاري برنامجا أسبوعيا حول التربية الصحية بالقناة الثانية، لتكون بداية تجربة ثرية دامت عدة سنوات وكان ثمرتها كتاب “الإسعافات الأولية للطفل” الذي أصدرته فاتحة سنة 2005.

*عيادة تحرسها الجنيات   

منذ أن وطأت قدماها العيادة، أحست بشئ غريب يشدها إلى هذا الفضاء المثقل بفوضى الحواس. كل قطعة منها تشف منها قصة وحكاية. كل ركن يتكئ على ذاكرة.

قضى د.السجلماسي بالعيادة  30 سنة، لم تغير فاتحة من معالمها كثيرا. بل لا تزال تحتفظ ببعض اللوحات التي تركها ناطقة على الجدران. غرفة التحميض التي كانت مخصصة لاستخراج الصور التي كان يتقنها بعناية الجرّاح والقناص معا. مساعدته مونيك وعاملة النظافة “مي فاطمة”. كانت العيادة تسير وفق ناموس الدكتور الذي تسكن روحه المكان وتعتبره فاتحه أباها الروحي الذي وهبها متعة السكون إلى النفس ومحاورتها ومجاورتها.

عندما غادر العيادة ترك كل شيء، ربما كان يحافظ للأشياء على دفء أمكنتها الأولى، في قيمة نادرة للوفاء ، وفاء بادلته فاتحة بحب كبير هي التي حافظت على يافطة اسمه الى جانب اسمها بباب العيادة وبمدخل العمارة.

تقول فاتحة عن لحظاته الأخيرة بالعيادة: “لم يحتفظ من عيادته التي شغلها زهاء ثلاثين سنة إلا بفردة حذاء لرضيع ضاعت منه ذات كشف. يضعها في مكتبه بالبيت، كوسام تقديري على كل العطاءات التي غمر بها الأطفال المغاربة الذين أصبحوا آباء وأمهات ومازالوا يترددون على العيادة بكل وفاء يسألونني عن صحته”. 

استمرت العلاقة الأبوية الروحية بينهما إلى أن توفي يوم 18 أكتوبر 2007، لكن روحه ظلت تسكن المكان والذاكرة والقلب، إذ كلما نطقت اسمه لمعت عيناها بفرح الحنين والفخر.

ذات لقاء بالكاتب المغربي إدمون عمران المالح، وبينما كانا يتحدثان عن مسارها الابداعي وعن الصدف الجميلة التي كانت تقود قلبها قبل قدميها إلى هذا الضوء الذي اسمه الكتابة، أخبرها إدمون عمران المالح أن تلك العيادة التي اشتغل بها السجلماسي 30 سنة، كانت من قبل لفنان فوتوغرافي يهودي  كبير وطبيب أطفال في نفس الوقت اسمه “كلود سيتبون” لاتزال أعماله الفوتوغرافية معروضة بالمتحف اليهودي بالدار البيضاء.

أدركت فاتحة لحظتها أن القدر لم يكن أحمق الخطى، وأنها اختارت الفضاء الأنسب لممارسة جنونها العاقل، عيادة تحرسها جِينات وجنِيّات الخلق.

أوراق من شجرة فاتحة مرشيد، الحلقة 16: “أطباء بصموا المسار الطبي لفاتحة مرشيد/ الدكتور محمد السجلماسي: عيادة تحرسها الجنيات وفردة حذاء”، الاتحاد الاشتراكي، الخميس 18 يوليوز 2019، العدد 12290.