هل يصدق عليها القول بأن كل فتاة بأبيها معجبة؟ أم هي أقدار الحياة التي عركتهما معا في طاحونتها؟ هل هي عقدة إلكترا تلبست بالفتاة التي لم تكن تترك سبيلا دون أن تسلكه لإرضاء هذا الأب مهما كان الثمن. وبين هذا وذاك ، حتما كان الانتقام من غياب الأم ومن كل النساء العابرات في حياته كأني بها تقول: أنا الأقوى، أنا الأبقى والكل إلى زوال.
تحكي فاتحة عن الأب المثالي بكل افتخار واعتزاز، كأنما تحكي عن بطل صاعد من حكايات الشاطر حسن.
“كان أبي مثالي الأعلى في هذه الحياة، أعترف أن مثالي كان ذكوريا، لكنني كنت أرى فيه الأب والأخ والصديق والأم. كان محبا لأبنائه ويسعى جاهدا لإسعادهم . بعد حدث الطلاق مع والدتي، كان يسهر على راحتي وإخوتي الثلاثة. لم أحس يوما بأي فارق بيني وبين إخوتي الذكور بل كنت أشعر بنوع من الاهتمام الخاص لكوني البنت الوحيدة”.
أثناء زيجات الأب المتكررة التي بلغت ثلاثا بعد انفصاله عن والدتها، كان الأب يصر على استشارة الابنة الصغيرة في أمر زواجه. ولأنها لم تكن لترفض له طلبا، لم تعترض يوما على ما يفعله لأن سعادته كانت أقصى ما تتمناه أمام تضحياته الكثيرة، ولأنها كانت متيقنة من كونه سيظل الأب المثالي الذي يحرص على سعادة أبنائه إذ كان يشترط على زوجاته بقاء أطفاله معه ومعاملتهم باحترام.
تقول فاتحة: “كنت أنا أقبل بالكثير إرضاء لوالدي، وكان أخي الأكبر يرفض كل شيئ لأجل الرفض أساسا معبرا بذلك عن ألم مكتوم. كل امرأة تحل محل أمي كانت عدوته. حتى ماما فاطمة بعطفها وتفهمها لم تستطع أن تجعله يقبل بها. أخي الأوسط كان مسالما مثلي، أما الأصغر فالأم الوحيدة التي فتح عينيه عليها هي أنا.”
كان الوالد يهتم كثيرا بدراسة أبنائه ويلح على تحفيظهم القرآن في الكتّاب وفي البيت. تحكي فاتحة “كنا نكتب ونستظهر ثم نمحو الألواح الخشبية بالصلصال. ومازلت إلى اليوم أحتفظ بلوحي المحفوظ.”
كما كان صارما في مسألة تعليم الفتاة، هو رجل التعليم حتى النخاع قبل أن يلتحق بسلك التفتيش، المؤمن برسالة العلم وبأن لا مستقبل للفتاة غير تعليمها.
“كان يصر عليّ شخصيا أن أدرس ومهما حصلت على نقط وعلامات جيدة لم يكن ذلك ليرضيه، وكثيرا ما كان يحذرني من الغرور والاطمئنان إلى تفوقي الدائم”.
ومن شدة تعلق الوالد بطريق المعرفة، كان يأوي بمنزله أبناء العائلة من البادية بعد إنهاء مرحلة تعليمهم الابتدائي ، تجنبا للهدر المدرسي الذي قد يعصف بمستقبلهم.
تتذكر فاتحة هذه الرغبة الملحة للأب في طلب العلم أنه حدث يوما أن المساعدة التي كانت بالبيت استقدمت ابنة أخيها الصغيرة لمساعدتها، لكن الوالد رفض بل أصر على أن تلتحق بالمدرسة وتكمل تعليمها، وفعلا التحقت بالمدرسة إلى أن حصلت على الباكالوريا وهي الآن تشتغل بسلك التعليم وظلت تتردد على بيت العائلة إلى حين وفاة الوالد في 2006.
من اللحظات التي أحست فاتحة فيها بالفخر لانتمائها الى سلالة هذا الناصري المرشد ، لحظة توقيعها لأحد كتبها بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، حيث تفاجأت بسيدة تتقدم نحوها قائلة: “حضرت حفل توقيعك إكراما لروح والدك وعرفانا بما قدمه لي”. وعندما استفسرتها فاتحة عن الأمر، أخبرتها السيدة أن عائلتها بالبادية كانت قد قررت توقيفها عن الدراسة وتشغيلها بأحد المنازل بالمدينة لكن بعد انتقالها من البادية ومعرفة والد فاتحة مرشيد صدفة بأمر تشغيلها من أحد معارفه، تدخل وأعادها رغم رفض العائلة الى مقاعد الدراسة… هي الآن أستاذة في البيولوجيا.
ورثت فاتحة عن أبيها حبها للغة العربية . تقول عن هذا “في علاقتي باللغة العربية تحضر رمزية الأب بقوة، أذكر أنه في أحد اللقاءات الشعرية بإسطنبول سألني شاعر فرنسي لماذا لا أكتب بلغة موليير بما أنني قدمت مداخلات بالفرنسية، فكان جوابي” لأنني أعتبر الأمر خيانة لأبي”، لقد جمعنا دائما حب الأدب…علاقته باللغة العربية كانت قوية حتى أنه غيّر اسمه العائلي من الناصري إلى مرشد، وهو طالب بجامعة القرويين، لما في هذا الاسم من حمولة توجيهية وتربوية. وأذكر أنني كنت أحرص عند اصطحاب ابنتي لزيارته، على تنبيهها إلى الحديث بالعربية فقط” .
تضيف فاتحة: “كل إخوتي ورثوا عن والدي حب اللغة العربية، فأخي الأكبر كان أستاذا للغة العربية، والأوسط يكتب الشعر بالعربية، أما الأصغر فقد خلف بعد أن أستدرجه البحر إلى أعماقه، وعمره لا يتعدى 24 سنة، مسودة لمسرحية لم يمهله الموت لإكمالها. كلهم تشبعوا بلغة القرآن الذي حفظوا منه على ألواحهم الخاصة عدة أحزاب عن ظهر قلب.”
تتذكر فاتحة هذا العطف الأبوي الغامر بفرح طفولي، عطف تجسد في أبلغ صوره حين كانت تحين ليلة العيد فيصر على وضع الحناء في كفيها، لعلمه بحبها للحناء، وكي لا تحس بأي مركب نقص من صديقاتها في المدرسة أو بنات العائلة.
عندما التحقت فاتحة مرشيد بكلية الطب، وحتى تعيد للأب بعضا من تضحياته الكبيرة، كانت تساهم بمنحتها كطالبة لتخفيف العبء عنه وشرعت في إعطاء دروس خصوصية للتلاميذ في مواد الرياضيات والعلوم واللغة، لتضمن لنفسها بعض الاستقلالية المادية التي تمكنها من شراء الكتب والمراجع إحساسا منها بتقاسم المسؤولية، تلك المسؤولية التي زرع روحها الأب في جميع أبنائه الذين تعلموا منذ الصغر الاعتماد على أنفسهم في كل شيء.
بعد وفاة والدتها، ستكسر فاتحة الصمت بكتابة ديوان” إيماءات” لتكون قصيدة “رسائل إلى أمي” بمثابة رسائل اعتذارا من والدتها. فيما استهلت الديوان بإهداء إلى والدها: “إلى من غرس في قلبي بذور الأدب، إليك أبي.. بعض إيماءات عبرت زمن الصمت.”
الحلقة 5: “أبي، رائحة الحناء مازالت في كفي”، الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 5 يوليوز 2019، العدد 79122