أمهات في حياتي
بعد انفصال الوالدين بسطات، ستنتقل العائلة في 1964 الى الدار البيضاء للعيش رفقة الجد للأب، بدرب الطُّلبة ، هناك ستقضي فاتحة سنتين بمدرسة “الفداء” الابتدائية ،الابتدائي الأول والثاني وهي السنة التي ستغير مجرى حياتها حيث ستلتقي أستاذتها لمادة الفرنسية ماما فاطمة التي عوضت حنان الأم، خاصة بعد زيارة الوالد للمدرسة من أجل الاطمئنان على مسارها الدراسي، هناك سيتعرف على الأستاذة لتنشأ صداقة بينهما جعلته يطلب منها الاعتناء بابنته، وعدم معاتبتها على هندامها أو تسريحة شعرها نظرا لغياب الأم.
تؤرخ فاتحة مرشيد بداية علاقتها العميقة والقوية مع مدرستها ماما فاطمة بأحداث الدار البيضاء 23 مارس 1965 حيث تم اقتحام المدرسة وتكسير الطاولات، وخوفا عليها طلبت منها الاستاذة الاختباء تحت مكتبها لتنشأ علاقة وجدانية كانت التلميذة النجيبة بحاجة إليها كي تستعيد توازنها النفسي والعاطفي.
سنة بعد هذا التعارف، سيتزوج الأب باختيار من والده هذه المرة كمن يكفر عن خطأ، سيتزوج ابنة عمه، الشابة الصغيرة الجميلة التي كانت تسرق أويقات لتلعب مع أبناء الزوج، وهو الوضع الذي جعل العائلة (الجد وزوجته والعمة) يقيمون بالبيت للقيام محلها بكل المسؤوليات.
ولأن الأب كان يعي حجم الفارق بينهما، عمريا وفكريا وعاطفيا، فقد اشترط عليها عدم الإنجاب لحظتها لتشتغل حينها آلة “كيد النسا” وتُحرض الزوجة – الطفلة على الإنجاب وعدم تناول أقراص منع الحمل، لكن قرار الأب كان مفاجئا فور علمه بحملها إذ قرر تطليقها والاحتفاظ بالابن الذي أنجبته.
تقول فاتحة عن أخيها من أبيها: “كان طفلا جميلا ووديعا، ضحية أخرى من ضحايا الطلاق، كنا نحبه ويحبنا ولم يكن بينه وبيننا فرق فقد كان يوحدنا وجع الفطام.”
بين فراق وآخر، بين غياب وحضور، كان على فاتحة أن تسد الفراغ، وأن تتحمل مسؤولية البيت والإخوة وربما هذا ما زاد من سخطها على الأم، ومن رغبتها في إثبات
حضورها أمام الأب هي الفتاة المجدة في المدرسة، المدبرة الحكيمة في البيت، المطيعة التي لا تختلق المشاكل. مشاكل كانت فقط من ثقل المسؤولية على الأب الذي أصبح مطالبا بتربية خمسة أبناء، تقاسم أعباءها مع المدرسة ماما فاطمة التي كانت على علاقة وطيدة بفاتحة التي أصرت على استدعائها لزفاف والدها من ابنة عمه سنتين قبل ذلك.
الصداقة القوية بين الأب والمدرسة فاطمة، والتي كانت محط إعجاب وتشجيع التلميذة فاتحة، ستتحول الى حب ثم إلى زواج دام6 سنوات، ستعرف خلالها فاتحة معنى أن تكون لك أم تسهر على راحتك، وتتابع أدق تفاصيل حياتك.
“وجودها في حياتي وفترة مراهقتي أنقذني.. علمتني معنى الثقة والكبرياء وفتحت عيني على أشياء عديدة، أولها أن مستقبل المرأة هو ثقافتها وتعليمها”.
تتذكر فاتحة مرشيد أول حدث سيزلزل كيانها بعد حلول ماما فاطمة بالبيت، فقد أصرت الزوجة الثالثة على أن تتم زيارة الأم لأبنائها داخل البيت وبكل ما يليق بها من احترام بدل رؤيتهم بحديقة المنزل.
تقول فاتحة عن هذه الفترة:”أنا مدينة لماما فاطمة، المرأة الراقية سلوكا وتفكيرا.. بمصالحتي مع أمي هي التي حرمت نعمة الأمومة. معها اكتشفت عالما جديدا: سافرنا داخل المغرب وخارجه بالسيارة.. استمعنا إلى أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم سويا وكنا نعيد كتابة كلماتها، قرأنا الشعر، ومعها تعلمت قراءة الأدب الفرنسي. حتى والدي الذي كان عاشقا للغة العربية، شجعته على تعلم الفرنسية. أسعد اللحظات مرت معها وأقسى اللحظات عشتها بعد طلاقها من الوالد ووفاتها”.
استمر زواج ماما فاطمة بوالد فاتحة مرشيد إلى حدود 1974، قبل أن يحصل الطلاق ويتزوج الأب للمرة الرابعة وفاتحة على مشارف الالتحاق بقسم الباكالوريا.
تألمت فاتحة لهذا الفطام القاسي الذي لم يكن ضمن حساباتها هي التي تعودت على روائح الفقد وجربت عزف الحنين. كانت تزور ماما فاطمة خلسة دون أن يعرف الأب وعندما علم بالأمر، منعها من زيارتها مراعاة لشعور الزوجة الجديدة. لكن حب امرأة وهبتها كل شيء، وعلمتها معنى أن تكون أنثى قوية جعلها تكسر كل الفرامانات الأبوية وتزورها بانتظام إلى أن دخلت ماما فاطمة في حالة اكتئاب شديد.
تحكي فاتحة عن هذه الأيام العصيبة: ” كنت أزورها بانتظام ولا أخبر أبي خوفا منه، وكم كان قاسيا ومؤلما أن أجدها في كل زيارة ساهمة تنصت لأغنية أم كلثوم “جددت حبك ليه “. كانت تحب أبي بشكل جنوني ولم تستوعب فكرة الانفصال عنه وعنا كذلك، فقد كنا لها أبناء هي التي كانت تعاني من العقم.
وكعرفان لما أسدته لي ماما فاطمة، أصررت عند حصولي على شهادة الباكالويا من ثانوية شوقي على اصطحابها معي لتسلم جائزة التميز التي حصلت عليها . كانت فخورة بي هي التي كانت تصر علي بأن أهتم بتحقيق هدفي دون الالتفات إلى الأشياء الهامشية وأن الحياة أولويات. لهذا طيلة السنة التي غادرتْ فيها المنزل، كنت كثيرا ما أتذكر نصائحها حين يستبد بي الألم، وأن الهدف الذي وضعناه سويا هو الحصول على شهادة الباكالوريا وبامتياز، فأؤجل ألمي وحزني ودموعي إلى حين”.
اشتد المرض على ماما فاطمة، ولم يستطع الأطباء انتشالها من حالة الاكتئاب والضياع، فماتت حبا.
“لم أكن لأصدق أن بإمكان الإنسان أن يموت حبا قبل أن أشهد عن قرب ما آلت إليه ماما فاطمة.”
أخبرت فاتحة والدها بوفاتها، فحزن عليها حزنا عميقا وعاتبها لأنها لم تخبره بمرضها هي التي كانت ممنوعة من زيارتها. فطلب منها أن تصطحبه إلى بيتها وقام بواجب العزاء.
الحلقة 3: “أمهات في حياتي.. ماما فاطمة، العاشقة التي ماتت حبا”، الاتحاد الاشتراكي، الأربعاء 3 يوليوز 2019، العدد 77122