أمهات في حياتي
قبل أن تختار اللغة أمّا وجدارا تستند إليه من كل الهزات التي اعترضت حياتها هي التي تعرضت لفطامات متتالية ، كان حظ فاتحة مرشيد من الجزالة الروحية أوفر. ثلاث أمهات غيّرن مسار الطبيبة والشاعرة والروائية. كل واحدة منهن تركت بصمة في حياتها.
من هن؟ من كانت الأقرب إليها؟ من مازالت تمسك بيدها إلى اليوم وتقودها إلى الدروب السالكة حتى بعد الرحيل؟
1- أمي: ما لم يقل بيننا
“يلزمني عمر لكي أستعيد طفولتي”
أي طفولة هاته التي تختصر عمرا بكامله؟ وأي عمر هذا الذي يركب جنون الكتابة من أجل لحظة طفولية زرقاء بلون الحلم؟
مشاهد مشوشة ولحظات قليلة تتذكرها فاتحة مرشيد عن طفلة فُطمت قسريا عن حنان الثدي، بحثت عن حضن أم فلم تجده، كل ما تتذكره هو صورة امرأة جميلة تحمل طفلين، أحدهما رضيع وتسلمهما للأب قائلة: “لا أستطيع تحمل مسؤوليتهما لوحدي”، لينضاف عبء آخر إلى الأب الذي كان يتحمل تربيتها وأخاها الأكبر .
مشهد ظل يشحن قلب هذه الطفلة الصغيرة ضد أمّ لم تكن سوى ضحية مجتمع لا يرحم امرأة مطلقة خاصة إذا كان لديها أطفال.
جرح الأم كان غائرا في حياة الطفلة فاتحة. كيف لطفلة ذات خمس سنوات أن ترفض رؤية أمها بعد لحظة فطام صعبة لم تنس تفاصيلها بعد أن تركتها هي وإخوتها الثلاثة : الأكبر (سبع سنوات)، الأوسط (سنتان) والأصغر الرضيع (ستة أشهر).
لحظة وسمت وستسم ما سيلي حياتها من بعد.
الوجع والإحساس بالفقدان والتخلي لم يكن لتتحمله وتستوعبه ابنة الخمس سنوات التي كانت ترى أمها أجمل الأمهات. سيل من الأسئلة كان ينهمر على ذهنها الصغير هي التي كبرت بالفقدان ونضجت في الغياب، وجربت معنى أن تكون طفلا متخلى عنك ومن الأم تحديدا:
“لماذا تركتني ماما؟ كيف لم تفكر برضيعها ذي الستة أشهر؟ لم لم تضحّ من أجل صغارها كما تفعل كل الأمهات؟
كانت الطفلة فاتحة ترفض رؤية أمها حين تأتي لزيارة أبنائها في حديقة المنزل بمدرسة علال بن عبد الله بدرب ميلا، حيث السكن الوظيفي للوالد. رفضٌ تعتبره عقابا للأم ولها في نفس الوقت، هي التي كانت تتحرق شوقا لرؤيتها، لكن حب الأب الذي كان يستوطن جوارحها، وتقديرها لتضحياته هو الذي تحمل مسؤولية الأب والأم، مصرا على النجاح فيها بأي ثمن، كان يزيدانها إصرارا على موقفها، وهو الموقف الذي كان ينال إعجاب عائلة الأب وثناءهم على البنت التي تحفظ الود ولا تخون قلب أب منحها كل شيء.
كانت تصر على عدم رؤيتها عكس إخوتها الذكور، بل حدث مرات أن قفزت هاربة من سور المدرسة عندما جاءت لرؤيتها هناك. ” كان في رفضي لها رفض لواقع قاس فُرضَ عليّ ورفض لعجزي أمامه”.
تحكي فاتحة عن والدتها بنوع من الحنين المشوب بالحزن.. عن سنوات ضيعتها بعيدا عنها، قبل أن يعود دم المشيمة الى مجاريه. تحكي عن حيرتها وترددها وهي تغالب شعورا بالرغبة في التعرف عليها وسؤالها عن أسباب الانفصال، بل تتحسر على كونها لم تجرؤ على نكء جرح الماضي، لكنها دبجت أسئلتها الممهورة بالحب والعتاب في “رسائل إلى أمي” التي اعتبرتها رسائل اعتذار متأخر، بعد أن جربت الإحساس بالأمومة بعد ولادتها ابنتها البكر، حينها اكتشفت أنها أم رائعة وأن الانفصال كان صعبا عليها كذلك. حكت لها عن أمها التي ماتت في النفاس وهي ترضعها وعن وجع اليتم وعن قصة حب جارف جمعها بالوالد، وكيف اضطرا معها أمام رفض عائلة الأب مباركة زواجهما الى الهرب والزواج بعيدا عن العائلتين، وهو الحب الذي يفسر حرص الأب بعد وفاتها على تقديم كفنها (الكفن الذي جلبه لنفسه من مكة المكرة) والتكفل بمراسيم دفنها وعزائها رغم وجود زوجها الثاني .
كان بودها أن تقول لها أشياء كثيرة “لم تقل بينهما”، أن تعيش معها أقصى ما يمكن من لحظات اللقاء بعد أن علمت بحملها لفيروس التهاب الكبد من فصيلة “س”، كانت تعلم أن المرض سيعلن عن نفسه بحدة بعد سنوات قلائل، وجهزت لها غرفة ببيتها الجديد لتأويها حين تصبح في حاجة لعناية طبية مستمرة، لكن القدر لم يمهلها كثيرا وكان قاسيا معها فقد فاجأتها نوبة قلبية بعد يوم واحد على آخر لقاء بينهما، وجف ماء كثير كان بإمكانه أن يطفئ جمر العتاب .
مع الوفاة المفاجئة ظلت كهوف كثيرة معتمة في حياة فاتحة لم تستطع الولوج إليها، لكنها عبرت إلى دواخلها عبر مفاتيح الكتابة وبالضبط في ديوانها الأول “إيماءات”.
تقول فاتحة عن إخوتها من أمها “كانت هديتها لي أختين وأخوين ورثوا عنها خفة دمها وحبها للحياة، وعن والدهم طيبوبته وشهامته، نصبوني أمّا لهم بعد وفاتها وحبي لهم لا حدود له.”
الحلقة 2: “أمهات في حياتي.. أمي ما لم يقل بيننا”، الاتحاد الاشتراكي، الثلاثاء 2 يوليوز 2019، العدد 61227.