رياض خليف
تواصل الكاتبة المغربية الدكتورة فاتحة مرشيد التوغل في عالم الرواية بعد تجربة شعرية في البداية، تجسدت في بعض المجموعات الشعرية التي أذكر منها «تعال نمطر»، حيث تتابعت إصداراتها الروائية وآخرها هذه الرواية التي حملت عنوان «الحق في الرحيل»، والتي صدرتها الكاتبة بمقولة لشارل بودلير تؤكد أن من أهم حقوق الإنسان حق التناقض وحق الرحيل.
يبدو الرحيل مفتاحا مهما من مفاتيح هذه الرواية، مثلما تنبهنا لذلك عتبات الرواية، فهو أساسي في العنوان وفي المقولة التي صدرت بها العمل… ولا يسفه مضمون الرواية حدسنا، فالرحيل محوري في هذا العمل الروائي وهو يأخذ بعدين… بعد دنيوي وبعد أخروي.
فأما البعد الأول فيتعلق برحيل الشخصيات من مكان إلى آخر… فهي شخصيات جمع بينها الترحال، والتقت في الغربة لتتواصل وتتحد وتعود إلى الوطن الأم.. لذلك تبدو هذه الرواية سريعة الحركة ومتعددة الأماكن، على الرغم من عدم طول نصها ولا تستقر على مكان، فعملية السرد تنقل الأشخاص وتجرهم من مكان إلى آخر، ذلك أن الشخصيات بدورها غير مستقرة على مكان وربما هي غير مستقرة على حال. ففي الرواية شخصيتان رئيسيتان جمعتهما علاقة حب حاسمة بدأت صدفة في لندن، اثناء لقاء احتفالي، وانتهت فجأة بالمرض والموت بعد محطات عديدة. فالصحافي فؤاد تعرف على الطباخة في لندن واتفق معها على العودة إلى المغرب، وأقاما مطعما ممتازا في ازمور المغربية، لكن المرض الخبيث داهم الزوجة اسلان فقطع هذه السعادة.
وهكذا ارتحلت الشخوص بين لندن وباريس وأغادير وأزمور وغيرها من الأماكن، فالراوي يبدأ سرد روايته في عاصمة الضباب لندن، حيث تعرف الصحافي إلى الطباخة ذات حفل لينهيها في أزمور المغربية، بعدما تطورت علاقتهما الى حب وزواج… وكان الرحيل إلى هذه الاماكن مقترنا حينا بأحداث الرواية ووحداتها السردية، وحينا رحيلا في الذاكرة وتداعيا واستدعاء للماضي.
ولم يشمل هذا الارتحال المكان فقط، بل كان ارتحالا في الذات ومشاغلها، حيث تحولت العلاقة العبثية إلى الحب الجدي والزواج والغربة إلى حياة في الوطن والفرح والاستبشار والسعادة إلى الحزن والألم والموت.
أما الصورة الثانية للرحيل في هذه الرواية فهي التي تتعلق بالرحيل عن الدنيا والموت، وقد طرحت هذه القضية منذ بداية الحديث عن مرض اسلان، التي استبد بها المرض وطلبت من زوجها دفع الأطباء للتخلص منها حتى لا تتعذب أكثر.
وبقطع النظر عن اللعبة السردية في هذه الرواية، فإن تعدد الأماكن شرقا وغربا يجعل الرواية تخرج عن المحلية نوعا ما… فمن عادة الروايات أن لا تتوغل في أماكن كثيرة، وإنما ترتكز على مدن وقرى بعينها، ولكن الكاتبة تكسر النمطية فتجعل الرواية واسعة المكان متجولة في العالم، كاسرة للحدود كأن العالم قرية.
وبقطع النظر عن المسارات السردية وتطورات الأحداث، تبدو الرواية ثرية بالمشاغل والقضايا، ولعل من أهمها قضية «القتل الرحيم» وهي قضية تشتد مناقشتها في الساحة وتطرحها الكاتبة من خلال إلحاح اسلان على زوجها والأطباء بقتلها بهذه الطريقة المثيرة، وقد أثار هذا الموضوع جدلا شديدا بين الزوج والأطباء، وهو لا شك من المواضيع الجدلية المعاصرة التي يشتد فيها الخلاف. كما يطرح مرض أسلان فجأة وتطور مرضها وعجز الأطباء عن علاجها ويأسها، قضية لا تقل أهمية، وهي هذا المرض الخبيث الذي تعاني منه المرأة العربية ويفتك بعدد مهم سنويا، أمام تواضع الإمكانيات الطبية وعجز الطب عن التصدي لهذا المرض.
كما تطرح الرواية مواضيع أخرى منها الثقافي والاجتماعي، ومنها مصداقية الكتابة وأسرار الحياة الأدبية، فشخصية الكاتب الشبح التي تقمصها فؤاد تكشف أن جمهور القراء يتعرض لمغالطة، وان ثمة ظاهرة متفشية لا يعلمها الجمهور وهي الكتب التي تحمل أسماء لكتاب غير كتابها الأصليين، ذلك أن ثمة كتابا متخفين لا يظهرون يكتفون بالكتابة وتسلم مقابل من أشخاص يتبنون الكتب وتحسب لهم ولسيرتهم الأدبية والفكرية… ولعل فؤاد الذي وصف في الرواية بالكاتب الشبح يمثل أحد هؤلاء، فهو يكتب تحت الطلب ولا يوقع كتاباته ويتجرد من الحس الإبداعي، فهذه المهنة هي «مجرد حرفة.. إني مثل عامل بناء يبني بيتا ليسكنه غيره»، وبقطع النظر عن الوجه الظاهر للمسألة فهي تكشف معاناة المبدعين في العالم واغترابهم عن إنتاجهم بسبب الحاجة والظروف.
كما تطرح الرواية قضايا أخرى مثل، الحب الحقيقي والتضحية التي يمكن اعتبار فؤاد رمزا من رموزها، فقبل رحيله إلى لندن تزوج امرأة لينقذها من الفضيحة وتبنى مولودها الذي أنجبته ولم يمسسها قط ثم طلقها لاحقا.
وتحضر في الرواية قضية الخيانة الزوجية، من خلال نماذج عديدة لحكايات صغيرة رواها جلساء فؤاد وتظهر فيها زوجات بصدد المراودة وخيانة أزواجهن… وهي قضية أخرى من قضايا المجتمعات العربية.
ومن دون إطالة لا يسمح بها الفضاء اعتبر أن هذا العمل الروائي يمتاز بجرأة ما بطرحه لهذه القضايا، ولكني لا أنسى أن هذه هي الرواية الثانية التي أقرأها لفاتحة بعد «لحظات لا غير»، حيث لم أطلع على بقية أعمالها، ولكنني أجد بين الروايتين تشابها في المناخات… فثمة الحب وثمة الألم والموت وثمة صورة المثقف التائه وثمة ملامح أسلوب روائي تتبعه فاتحة مرشيد التي تحاول في سردها استنطاق العواطف والاحتفاء بالجانب العاطفي للإنسان.
21 نوفمبر 2014 – القدس العربي
http://www.alqudsalarabi.co.uk/?p=139846