أحمد الجرطي
تواصل الشاعرة والروائية، فاتحة مرشيد، إغناء المشهد الإبداعي المغربي بأعمالها الروائية المتميزة آخرها رواية “الحق في الرحيل” الصادرة مستهل سنة 2013 ميلادية عن المركز الثقافي العربي، وإذا كانت استراتيجية الكتابة الروائية عند مرشيد تقوم، حسب تصوري، وانطلاقا من أعمالها الروائية السابقة “مخالب المتعة” “لحظات لا غير” “الملهمات” على خاصيتين أساسيتين:
شاعرية اللغة التي تتخذها المبدعة منطلقا للنفاذ إلى أعماق الشخصيات، واستبطان مجراها النفسي، واستراتيجية التناص التي تسترفد من خلالها مرشيد العديد من الخطابات المتخللة المستقاة من حقول معرفية عدة لإغناء المتخيل الفني للرواية، وتحيين مرجعيات حبلى بإيقاعات ما هو معيش ومجتمعي، فضلا عن توفير إمكانات ثرت أمام القارئ للتدليل، فالملاحظ في رواية “الحق في الرحيل هو نزوع الكاتبة نحو تشييد عوالم إنسانية جديدة تؤشر على تحول من جهة في مصارها الإبداعي، وعلى المنعطفات الجديدة التي بات السرد النسوي يرتادها من جهة ثانية، حيث لم يعد منحصرا في نقد المركزية الذكورية، وتفكيك ما تتبطن به من أنساق ثقافية مضمرة قوامها تحقير المرأة وتنميطها في خانة التابع والهامشي، وإنما الالتحام بصميم ما يعتمل في عمق الواقع الإنساني من مشكلات وقضايا تخص الوجود البشري. ولأهمية هذه الرواية، وما التحفت به من قيم فكرية وفنية مائزة، فإننا سنقاربها نقديا مسترشدين بالخطوات التالية:
أ – بنية العنوان:
يكتسي العنوان أهمية كبرى خلال التفاعل مع النصوص الإبداعية حيث يعد من العتبات الأساسية التي ترهص بمضمون النص وتحفز القارئ لاستشراف عوالمه الدلالية، وهكذا فعنوان الرواية هو عنوان مركب يحكمه نسق اللاّ تحديد حسب تصور نظريات القراءة والتأويل، بمعنى أنه ليس من فصيلة العناوين الممهورة بخاصية التعيين والمطابقة، وقابلية الخضوع للقراءة أحادية الدلالة، ولكنه ينضح بالعديد من البياضات والفراغات التي تدفع القارئ لاستيلاد عدة تأويلات ودلالات، حيث يوحي العنوان مثلا بأن للإنسان الحق في تقرير مصيره داخل علاقة عاطفية محكومة بالألم والمعاناة معلنا الرحيل والمغادرة، أو له الحق في الهجرة عن وطن لا يستجيب لأحلامه ومبادئه، وينسجم مع قناعاته الفكرية، ولكن إذا كان “فولفغانغ إيزر” أحد منظري اتجاه نقد استجابة القارء، أعتبر المعنى داخل النص شيئا غير منجز وثاو بالبنية النصية، وإنما وليد سيرورة القراءة 2، فما يوحي به مضمون النص خلال الاستمرار في التفاعل مع بنيته التخييلية هو مناقض تماما بالإيحاءات السابقة التي يثيرها العنوان، لكون الرواية تطرح على الصعيد الدلالي رؤية جريئة تخص تقرير الإنسان مصير حياته في الوجود مخالفا بذلك العقائد والشرائع الدينية ومستندا إلى مدى حجم عمق معاناته، وقدرته على المقاومة والصمود.
ب – دراسة في التيمات والرؤية
يوحي مضمون النص في البداية بأنه مضمون عاطفي يصور دور الحب كقيمة إنسانية مثلى في مقاومة رتابة الحياة، وسأم الوجود، وتوفير لحظات مفعمة بالسعادة والفرح أمام الإنسان للإقبال على الحياة بنهم، ومداواة جراحاته الداخلية، وهو ما نلمسه في العلاقة العاطفية الملتهبة التي نشأت بين الصحفي فؤاد والفتاة المغربية إسلان بعد لقاء تم بينهما في احتفال أقامه أحد الأصدقاء بلندن لاستقبال السنة الجديدة، لتترجم العلاقة العاطفية المشبوبة بين البطلين، وبعد سلسلة من اللقاءات المتكررة بينهما إلى زواج حافل بكل أشكال التواصل والتشارك الإنساني، حيث يعودا معا إلى أغادير، ويتحقق حلم إسلان في فتح مطعم بهذه المدينة تستثمر من خلاله كل خبراتها في عالم الطبخ لجذب الزوار بأطباقها الشهية المعدة بكل روعة وإتقان، ولكن ما أن تتعاقب المتواليات السردية في الرواية، حتى يبرز حدث طارئ وصادم لكلا البطلين حيث تصاب البطلة إسلان بسرطان اللسان ليتخذ الأطباء بعد ذلك قرار الاستئصال. وهنا يتشح عالم الرواية بغلائل من الحزن والسوداوية، حيث تتضاعف معاناة البطلة بعد استشراء السرطان في جسدها وتتلاشى قدراتها على المقاومة والصمود لتجهر لحبيبها بأن هذا العطب الجسدي هو في الوقت نفسه عطب روحي يطال كينونتها الإنسانية، ويصيبها بالدونية والتشظي والاهتراء، طالبة منه وضع حد لحياتها، ومن هذا المنطلق تستثمر الروائية فاتحة مرشيد تخصصها المهني في حقل الطب لتطرح سؤالا جريئا هو: هل يجوز للإنسان الحق في طلب الموت الرحيم “أوثانازيا” بعد اشتداد عذاباته وعجزه التام عن تحمل أوجاع المرض؟
تقول البطلة في الرواية “ما أهابه هو التدهور الإنساني، هو الألم الذي لا يطاق، هو اعتمادي على الآخرين في كل شيء. أعلم أنك ستعتني بي بكل حب، لكنني لا أرضى لنفسي أن تفقد استقلاليتها وأن تعتمد على أحد حتى ولو كان زوجي. أريد أن تعدني، يوم أصل الحد الذي أبدأ فيه بفقدان إنسانيتي أن تساعدني على الرحيل بكرامة”.
وهكذا فطلب الموت الرحيم، أو الرحيل بكرامة هو التيمة الأساسية التي تسري في كينونة النص، وتأشر على الحس الإنساني الأصيل الذي ينبض في وجدان المبدعة، مبرزا تعاطفها العميق مع عذابات الفرد وتصدعه تحت قهر المرض والموت، وإحساسه بالهشاشة والضآلة والانسحاق.
ج – التخييل وبنية الشكل الروائي
استنادا للمنجز الروائي السابق لفاتحة مرشيد، تتفرد رواية “الحق في الرحيل” بخصائص فنية مغايرة حيث لا تستمر الكاتبة في الاعتماد بكثافة على تقنية التناص وشعرية اللغة في نسج العوالم التخييلية للرواية، وإنما تستدعي طرائق سردية أخرى في مقدمتها، تقنية الاسترجاع أو التذكر التي أفسحت المجال أمام المبدعة لتكسير خطية السرد والزمن، والاطلالة على ماضي الشخصيات وما تخللته من أحداث تخص مغامراتهم العاطفية والجنسية، كما هو الحال مع الأصدقاء المغاربة رشيد، حميد، يوسف، فؤاد، الذين جمعتهم أيام الدراسة في باريس، وكما هو الشأن أيضا مع بطلي الرواية الأساسيين فؤاد وإسلان الذين استغورت الكاتبة ماضيهما النفسي، وأتاحت للقارء الولوج لحناياهما الداخلية بفضل تداعي خواطرهما، واسترسالهما في البوح الذاتي الشديد الكثافة النفسية، وهو ما كشف عن كون استقبالهما المتأجج لمشاعر الحب المتوقدة بينهما إنما هو تعويض عما جلل حياتهما في ظل الانكسارات والخيبات من اغتراب ووحدة، ونضوب عاطفي، كما تميزت الرواية على الصعيد الفني بوفرة الحوارات المقتضبة أحيانا، والمطولة أحيانا أخرى بين الشخصيات مما أسهم في تفريد أوعائها، وتنسيب رؤاها، وهنا أخالف الناقد القدير محمد برادة في توصيفه لبنية شكل “الحق في الرحيل” بأنه أقرب لرواية الأطروحة وذلك حيث يقول: “ولعل إلحاح الكاتبة في الصفحات الأخيرة على الدفاع عن مبدأ الموت الرحيم يعطي الانطباع بأننا أمام رواية تجنح إلى المباشرة والتحيز السافر، لكن ما قد يشفع لها هو أن الدفاع هنا متعلق بقضية إنسانية تحتاج إلى رفع النبرة والتخفيف من عذاب إنسان وهو يرتاد غياهب الفناء”.
ومرد هذا الخلاف أنه رغم التعاطف الكبير الذي حظيت به البطلة إسلان من طرف زوجها فؤاد الذي إنقاذ لرغبتها في الموت الرحيم بعد أن لقي رفضا شديدا من صديقه المشرف على علاج إسلان الطبيب رشيد ليكون مصيره السجن، إلا أن ذلك لم يضف، من منظورنا، على الرواية طابعا دعائيا هتافيا لأن تبئير الكاتبة السرد بتأن وانسيابية حول موقف الطبيب رشيد الرافض لفكر الموت الرحيم، أخصب المتخيل الفني للرواية، وجعل الرؤية الكامنة خلف صوغها الروائي لا تتسم بالجاهزية والوثوقية والمونولوجية، بل تكتنز ببعد حواري جدالي ألغى عنها نزوعها اليقيني مفجرا أمام القارء منافذ غنية للتأويل، والمشاركة في بناء الدلالة.
يقول الدكتور رشيد في الرواية معللا وجهة نظره الرافضة لطلب صديقه فؤاد وتوسلاته “عليك أن تعلم بأن المريض بالسرطان، يمر بمراحل عديدة، أولها الإنكار ثم الغضب ثم الرفض ثم الاكتئاب ثم القبول والتسليم، وإن من يطلب الموت الرحيم في المراحل الأولى قد يغير رأيه فيما بعد”.
كما توهجت الرواية أيضا بالعديد من المشاهد الحوارية التي أثرت عمقها المعرفي مؤشرة على أن شخصيات الرواية لم ترسم بطريقة ناجزة من طرف المبدعة، وتكون مجرد صدى لتمرير أفكارها وقناعاتها، بل احتفظت بقدر من الاستقلالية داخل النص الروائي ترتب عنه اختلاف كينونتها ووعيها، ومن تجليات ذلك في النص الروائي عدم اقتناع البطلة إسلان بجدوى مهنة الكاتب الشبح الذي احترفها الصحفي فؤاد لفترة طويلة لكونها تغيب صوت المبدع وأصالته وتجعل كتابته مجرد استنساخ لتجارب وحيوات الآخرين، مشددة على أن الإبداع الحقيقي هو الذي يكون عصارة لأوجاع الإنسان الخاصة، ونسوغ روحه الداخلية. وعلى هذا الأساس فرواية “الحق في الرحيل” هي أقرب للشكل الروائي الحواري لحرص الكاتبة على عدم تشييء شخصياتها وتنميطها وفق منظوراتها الفكرية، وإفساح المجال أمامها للحوار والاختلاف مما ترتب عنه التخفيف من نبرتها الأحادية، وتنسيب أصواتها.
واستنادا لمستويات التحليل السابقة تعد رواية “الحق في الرحيل” إضافة نوعية في المسار الإبداعي للكاتبة فاتحة مرشيد لما قدمته من أسئلة جريئة تخص الكينونة الإنسانية وماهيتها، وشاهدا قويا على النضج الذي بات يميز السرد النسوي العربي الذي لم يعد مختزلا في حدود المحكي السير الذاتي، أو خلخلة ما تتدثر به الثقافة الأبوية من صور جوهرانية عن الذات الإنسانية قوامها التبخيس لتسويغ المركزية الذكورية، وتجذير متعالياتها، وممارستها الوصاية على المرأة مجهضة حقها في الحرية والاختلاف، بل أضحت أكثر انغراسا في صميم القضايا المجتمعية والانسانية الكبرى للوجود البشري.
جريدة “الخبر” العدد 653– الجمعة 12 يوليوز 2013
http://www.rasseen.com/art.php?id=72101dddc7c03cd70491a1ba5568d6664df212a4