د. خالد سليكي
”لا تفكري في الحياة بل كوني أنت الحياة؟“
الحق في الرحيل
إن القارئ لنصوص المبدعة المغربية فاتحة مرشيد، شعرا أو رواية، يلاحظ أنها تؤسس لتجربة أصيلة في الكتابة الإبداعية، لا من حيث قيمتها الفنية و لغتها، ولا من حيث ”الموضوعات“ التي تتناولها. وهي في ذلك تستثمر حسا جماليا عميقا ينفذ إلى أعماق ”الكائن“ من حيث هو فرد يواجه مصيره الأنطولوجي بالكثير من القلق والتأمل والحكمة في فهم الواقع والآخر. وهي بذلك تقحمنا، كقراء، في عمق ”التجربة الإنسانية التي “تطارح“ إحدى أكبر الإشكاليات تعقيدا واستعصاء، بل هي إشكاليات تخص جوهرنا كـ“أفراد“، وأقصد بذلك الحب والموت والذاكرة باعتبارها تاريخ ومتاع الفرد التي يحملها معه في مواجهته لفهم ما يدور من حوله…
فمنذ القراءة الأولى نلاحظ هيمنة ثنائيات الحب والموت، الفن والجمال والمادة، الحاضر والذاكرة، الرجل والمرأة.. ولعل الجميل لدى كاتبتنا أنها لا تتعامل مع هذه الثنائيات كمتناقضات وإنما كجزء من حقيقة الوجود، كمتقابلات لا يكتمل الوجود من دونها.. إنها تجربتنا، جميعا، في هذا العالم. لا حياة بلا موت، ولا موت إلا بوجود حياة، ولا حب إلا بوجود تضحيات، ولا يكتمل وجود الرجل والأنثى إلا بحضور مشاعر الحب في أرقى صوره..
من هذه الخلفية يأتي نص ”الحق في الرحيل“ كتجربة تحاول أن تؤسس لفهم مغاير لقضية ”الموت“، ليس كمصير أنطولوجي لا سلطة للفرد عليه، بقدر ما هو قضية ينبغي أن نتعلم كيف نواجهه. أي أن نتعلم ”كيف نموت“. ولكأنه قد حان الوقت كي نؤسس لأنطولوجيا مغايرة للموت في مجتمعاتنا العربية، المسكونة بثقافة ”الموت“ باعتباره قدرا متعاليا، وباعتباره ”حقيقة“ إلهية لا يمكننا أن نواجهها ”أليست الأخلاق من صنع المجتمعات لضبط الغرائز الطبيعية لأفرادها؟» [الحق في الرحيل. ص.٧٣.].
والمثير أن النقد، حتى الآن، تعامل مع هذا النص [الحق في الرحيل] باعتباره نصا يعالج قضية ”الموت الرحيم“، بصورة سطحية وهجينة أفرغت النص من سؤاله العميق ومن إشكاليته الفلسفية والفنية، على السواء، ليتختزل (النقد) القضية كلها في إذعان فؤاد لرغبة إسلان في التخلص من الحياة، الذي ستشاء الظروف، في لندن، أن يتعرف إلى زوجته (إسلان) في حفل، لتتوج العلاقة بزواجه منها ويعيشا قصة حب، قدمه لنا النص، بالكثير من الدلالات الإنسانية المثقلة بالمشاعر النبيلة.
مع ”الحق في الرحيل“ ندرك أن الحب قيمة عالية، بل من القيم السامية التي تناضل الذات الإنسانية، وشخصيات النص، من أجل إنضاجها.. وهو ما يؤكده النص حين نقرأ ”لا تهمني تفاصيل الأحداث بقدر ما تهمني انفعالات الشخصية خلالها ووقعها عليها وتأثرها بها.. تهمني الشخصية وسط الأحداث بأحلامها، بمخيلتها، بكل إفرازات الحياة بداخلها لأن في الكتابة كما في الحياة لاتهم عظمة الأحدث بقدر ما يهم تفاعلنا معها“ [الحق في الرحيل. ص.٣٠.].
ففؤاد، الذي امتهن مهنة فريدة وهي ”الكاتب الشبح“ -le Negre- وقضى عمرا يكتب للآخرين بالمقابل، سيجد نفسه في مواجهة واقع لا يمكنه أن يتحمله إلا بممارسة فعل الكتابة إذ ”لابد للكتابة، من موت حتى تتحرر من سجنها» [الحق في الرحيل. ص.٩.]. ليصبح الموت حرية وتصبح الكتابة فعل تحقيق هذه الحرية، حتى في اللحظة التي كان يواجه فيها حكم الإعدام، وهو يعرف أنه سيموت. إذ الكتابة، في النص، فعل رهين حدث الموت ”ربما كانت تلزمني موتا فقط، لأنها ”مثل الجوزة لابد من كسرها لتكتشف» [الحق في الرحيل. ص.١٠.].، و”لم تعد الكتابة اختيارا، أصبحت هواء يملأ الفضاء كحضورها“ [الحق في الرحيل. ص.٤٧.]. ومن ثم سيستدرجنا فعل الكتابة هذا للغوص في عوالم كثيرة مشبعة بالحب والفن والمواقف تجاه كل مناحي الحياة. فيجد القارئ نفسه يحيا في عوالم الحكي من خلال تجربتين فاصلتين في حياة فؤاد، لكن بالكثير من الحكمة واعادة الاكتشاف. ونقصد تجربة زواجه الأبيض من ربيعة، أخت أحد أصدقاء طفولته، بعد أن سقطت ضحية حمل تسبب لها فيه أخوها. ثم تجربة تلبية رغبة من أحبها، وهي إسلان، التي اختارت أن تضع حدا لحياتها بما يسمى بـ“الموت الرحيم“، بعد أن تمكن منها السرطان الذي أصاب لسانها، وهي فنانة الطبخ الذواقة التي كانت تنظر إلى العالم بحكمة الشرق وفلسفة الجمال.
بين أن يحقق فؤاد رغبة معشوقته/زوجته، في أن يساعدها على وضع حد لآلامها المبرحة التي ”يضرمها“ السرطان وهو في مراحله الأخيرة، وبين ما تقتضيه القوانين والأعراف وثقافة الموت المهيمنة، كانت اللحظات التي عاشها فؤاد من أقوى وأشد الأسئلة إرباكا وقوة والتي لا تزيد الفرد إلا حيرة وتشتتا.. إذ ”يفقد الإنسان ذكاءه أمام المواقف الحرجة، لأنه لم يخلق لكي يحسم أمورا كهاته» [الحق في الرحيل. ص.١١.]..
”الحق في الرحيل“، هو حق في الإرادة في أن نحيا ونصبح أسياد مصيرنا في مواجهة الموت، وأن نجعل من اللحظة حياة بذاتها ”لا تفكري في الحياة بل كوني أنت الحياة“ [الحق في الرحيل. ص.٥٧.]. وفؤاد الذي يطالعنا، في بداية العمل، باعتباره الشخص الذي يعيش تجربة مواجهة نهايته، بعد أن لبى نداء زوجته حبا وإخلاصا، نجده يواجه مصيره بالكثير من الحكمة والثقة والصفاء، فهو يملك القدرة على كتابة ووصف مشاعره ونحت أعقد الأسئلة دون أن يفقد بصيرته وصفاءه. وحتى حين طلب من محاميه أن يقول ما يمكن أن يبرئه نجده يقول: «ما معنى النجاه؟ وقد غيرت إدراكي لمعنى الموت والحياة» [الحق في الرحيل. ص.١٢.].
هكذا لا يصبح الموت هو المعضلة، بقدر ما يصبح السر العميق، في هذا العالم، هو الإنسان ”أكبر لغز في الحياة هو الإنسان» [الحق في الرحيل. ص.٧٦.]. هذا الكائن الذي تتعايش فيه، وبانسجام غريب، كل القضايا والأهواء الأكثر تعقيدا في الوجود، والتي لا يمكنه أن يحسم فيها. فكل بداية هي رحم لنهاية، وما على الإنسان إلا أن يتعلم كيف يسير نحو نهايته واقفا ممتلئا “باللحظة“ التي يمكنها أن تشكل بُعدا في مواجهة مصائرنا باعتبارها حقيقة، ومن ثم يصبح من الحكمة أن نتعلم ”المضي قدما مثقلا بما ينقصك» [الحق في الرحيل. ص.٥٨.].
مجلة “عن الكتب” العدد المزدوج 8-9
نوفمبر 2013/ فبراير 2014