عائشة العلوي لمراني
تحية إبداعية للصديقات العزيزات تحية إكبار وتقدير ومحبة لا متناهية لسيدة الربوة والشكر لا يكفي للتعبير عن الامتنان لهذه اللحظات الجميلة التي تنقلنا من بؤس واقع تحاصره الرايات السوداء إلى اخضرار الحياة في حضرتها، شكرا لك لأنك صديقتي، شكرا للزمن الذي رغم مرارته ينشد لنا بصوت الخالد محمود درويش على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وأنا أقول على هذه (الربوة) ما يستحق الحياة والأمل.
تحية خاصة للطبيبة، للمبدعة فاتحة مرشد، فاتحة موسم الربوة الجديد وكل التقدير لنبع إبداعها المتدفق الذي نهلنا منه ونقول هل من مزيد ولها المزيد من التألق والعطاء.
أبدأ قراءتي المتواضعة لرواية الحق في الرحيل بجملة قالتها الأديبة فاتحة مرشد في أحد الاستجوابات ” كم يلزمنا من السقوط حتى ننهض” هذه الجملة علقت بذاكرتي لأنها لخصت المشهد السياسي والأخلاقي والثقافي والفكري على امتداد جنوب المتوسط وشرقه الذي عرف ما يسمى بالربيع العربي، تراكمت السقطات وبقي النهوض رهين حتى، ونحن نعلم أن سيبويه مات وفي نفسه شيء من حتى
مارسنا الحق في السقوط بتلقائية وعفوية كأنه قدرنا الحتمي فهل ينقدنا الحق في الرحيل؟؟
عتبات النص *
على عتبة رواية الحق في الرحيل نقف نتلمس الطريق نحو العلامات فهل نملك ما تيسر من العلم لفك الرموز وفتح الأبواب المرصودة، باسم الدهشة نبدأ.
يتوسط عنوان الرواية العلاف ويمتد كأنه طريق إلى مكان ما أو زمان ما طريق أبيض هل هو لون الأمل أم لون الكفن، والحق هل هو ذلك الشيء المستحق الذي تفرضه الحاجة ويضمنه القانون، والرحيل هل هو رحلة إلى المعنى القريب أي التنقل أو الانتقال من مكان إلى مكان إذن فهو حق مكتسب شرعه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء في البند الثالث عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
1 ـ لكل فرد الحق في حرية التنقل وفى اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة.
2 ـ لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفى العودة إلى بلده.
غير أن تصنيف المؤلف كرواية يجعلنا نستبعد المعنى القريب إلى حين. لنتمعن في انسكاب اللون الأحمر الذي يغطي أكثر من نصف الغلاف لون الدم لون الثورة أو لون علم الوطن وقد غادرته النجمة الخضراء، يقتحمه الأسود لون الحبر فالرواية كتابة، واسم الكاتبة المجلل بالسواد هل هو لون حداد يتساوق مع البياض/ الكفن في العنوان هل الرحيل في العنوان يعني الموت؟؟
اعتدنا أن نقرأ المكتوب وأن نعتبر الصور مجرد وسائل داعمة أو موضحة، لذلك لم أقرأ الغلاف من أعلى إلى أسفل بل من أسفل إلى أعلى، إن هذا العصر هو عصر الصورة بامتياز غير أن جيلنا المخضرم لازال واقعا تحت سلطة المكتوب. الصورة في الغلاف علامات أخرى فهل تمنحنا المفتاح؟؟ الجسد المسجى فوق السرير العينان اللتان غادرتا مكانهما الطبيعي لتنظران في اتجاهنا تستجديان الرحمة الفم المغلق الذي غادرته كتلة حمراء لها شكل اللسان لتتخذ مكانا لها فوق الرأس.
والكتلة الممهورة بالسواد في أعلى يسار الغلاف تكاد لا تخفي العيون المطلة على الجسد هل هي عيون الموت جاء في الصفحة 10 ” ” يأتي الموت وله عيناها“.
نجتاز عتبة العنوان لنقف عند عتبة النص الموازي الأول لشارل بودلير الذي يدعو للحق في التناقض والحق في الرحيل ـ والنص الموازي الثاني تحضر فيه الكاتبة وقد ارتدت إلى صفتها الشعرية تقود موكب الراحلين / الراحلات من رحيل إلى رحيل.
وتفتح الرواية بابا مشرعا على متاهات النص. فأي تيمة من تيماته المتعددة تشكل بؤرة النص… لنبدأ بالحكاية:
تيمة الحكاية *
يستغل الناشر (التاجر) عادة الغلاف الأخير لتقديم الرواية معتمدا عنصر التشويق لجلب القراء وفي رواية الحق في الرحيل يتحول اللون الأبيض للعنوان إلى اللون الأحمر متصدرا نصا من نصوص الرواية الوارد في الصفحة 58 ، والذي يطرح أسئلة وجودية عن سر الحياة والموت، و يخصص الجزء الثاني لقراءة تختصر الرواية في حكاية فؤاد وإسلان لتصبح مجرد حكاية حب عفوي يحولها القدر إلى مأساة مرض إسلان الذي لا أمل في الشفاء منه فرغبتها في أن ينهي الموت الرحيم حياتها على يد حبيبها فؤاد.
الرواية رواية حكايات بامتياز أكثر من كونها رواية علاقات. والحكاية المحورية هي حكاية فؤاد وإسلان، وهي ليست حكاية ناظمة للحكايات الأخرى سواء التي كتبها فؤاد بحكم مهمته ككاتب سري أو التي سمعها في لقاءات السمر التي كانت تجمعه بأصدقائه والتي أطلق عليها الراوي “الحلقة“. وإذا حذفنا التعليقات الساخرة التي توجه الحكايات للتفاصيل الجنسية، فإن الحكايات في الرواية لا علاقة لها بحكايات الحلقة في المخيال الشعبي والتي تتمحور في الغالب حول البطل الفارس وهي في هذه الرواية أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة وإلا أن شهريار يتبادل الأدوار مع شهرزاد، شهريار هنا هو رشيد أو حميد أو يوسف، وتحضر المرأة كموضوع للحكاية لا كطرف فيها، لا صوت مستقل لها، فهي المحكي لا الحاكي في علاقة الجنس الأزلية، إسلان وحدها كان لها حق الحكي ص 33.
وكما تم تبادل الأدوار بين شهرزاد وشهريار تم تبادل الأدوار على مستوى العلاقة فالمرأة سواء كانت كلود أو غيثة أو الخالة خدوج هي المبادرة في هذه العلاقة، المرأة راغبة بدل أن تكون مرغوبة متمنعة والرجل مرغوب ساقط في فخ الغواية.
ويصل التناص بين الرواية وألف ليلة مداه عندما تتخلل الحكايات وصلات غنائية من “ريبرتوار” ناس الغيوان بأداء فؤاد. وألف ليلة وليلة حافلة بالأشعار وخاصة الأشعار الغنائية التي تؤثث ليال السمر.
تيمة الفضاء *
” إننا نلبس المكان كما نلبس قميصا، ولهذا عليه أن يكون على مقاسنا، يشبهنا، نرتاح داخله، ونتحرك بحرية” هيروكي ص 53
للفضاء في الرواية عموما ملامح وتفاصيل الفضاء في العالم الواقعي غير أن الخيال والوصف والسرد يعيد انتاج الفضاء ليصبح صالحا لاحتواء الأحداث والشخوص. وهو ليس مجرد إطار للأحداث، للفضاء حضور معنوي له صوت ولغة، له رائحة، يتسع ويضيق حسب علاقة الشخص به، يضيق حتى يصبح سجنا ص 45 (بيت يامنة) ويتسع باتساع العالم ما قبله وما بعده، ويتسع باتساع القارات ثلاث إفريقيا وأوربا وآسيا. والفضاء ليس هو المكان فقط والزمان فقط الفضاء هو كيمياء تختزلنا في تركيبة عجيبة حافلة بكل ما ينقصنا. والفضاء في الرواية لا يمنح سره إلا للطيور المهاجرة.
تميل الكاتبة في الرواية إلى الفضاءات المفتوحة، تضيق بالأمكنة المغلقة، لذلك نجد شخوص الرواية طيورا مهاجرة لا تليق بها إلا الفضاءات المفتوحة. ومثل الطيور المهاجرة تعشق التحليق فوق البحر، والمكان رمز للااستقرار، فرشيد مثلا الذي يعيش علاقة متوترة مع زوجته ومع مفهوم الأسرة يستقبل صديقه فؤاد في مركب تتقاذفه أمواج البحر، يحلينا ذلك على روايتى ثرثرة فوق النيل، والسفينة لجبرا إبراهيم جبرا. والأماكن العابرة في روايات دستويفسكي بيت هيروكي يطل على نهر مطعم إسلان على شاطئ البحر..
والمكان أطباق طعام ونكهات وتوابل، وفي الطبق، في التوابل تمتزج كل الأزمنة والأمكنة مهما تباعدت.
والمكان محطة تنتظر فيها الشخوص صفارة الرحيل إلى مكان آخر أو زمان آخر.
وملامح الشخوص تعكس انتماءاتها إلى تافراوت ـ مراكش ـ أزمور ـ أصيلة. المكان يحدد الملامح ويوجه السلوكات،
والزمان يمتد عقودا ويقصر لحظات، يتراجع، يتداخل، يمزج القصص والحكايات.
أو كما جاء ضمن قواعد العشق الأربعين ” إن الماضي تفسير، والمستقبل وهم. إن العالم لا يتحرك عبر الزمن وكأنه خط مستقيم، يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل إن الزمن يتحرك من خلالنا وفي داخلنا، في لوالب لا نهاية لها“.
:تيمة الأسرة *
تتوارى في الرواية الصورة النمطية للأسرة التقليدية وتحضر الصورة التي أصبح لها تواجد فعلي في النسيج المجتمعي. فالتقارير تشير إلى أن أكثر من ربع الأسر المغربية تعولها نساء، ونسبة أكبر ترعاها النساء، (ص 33 ) الرجال موعودون للهجرة والغرب في حاجة إلى سواعدهم القوية (ص 33)، وعلى النساء أن ينتظرن زيارة الزوج في العطل السنوية، وعلى الزوجة وحدها أو برفقة الجدة العناية بالأطفال الذين تحبل بهن النساء في العطل السنوية وهنا لا تشابه بين يامنة في هذه الرواية و آمنة في الثلاثية إلا في الاسم، غير أن تغير الأدوار لم يغير العقليات فنفس الشعور بالذنب والدونية هو ما يوحد بين الشخصيتين، لذلك فعندما تخطئ أيا منهما فالعقاب يكون عسيرا (39) عندما يتعرض الطفل موسى لحادث يتسبب في موته يتضخم الشعور بالذنب لدى الأم ويبدأ العقاب فهي في نظر نفسها لم تعد تستحق لقب أم، لذلك تمتنع عن إرضاع ابنتها وتغرق في الحزن ويتحطم كل شيء في داخلها. انتقالها للعيش مع زوجها في فرنسا انتقال شكلي فهي سجينة الشعور القاسي بالذنب من هنا تتوجه هواجسها نحو التنظيف، تنظيف كل ما يقع عليه نظرها، البيت، الجسد، وتبقى الروح ملوثة بذلك الشعور المضني إلى أن يصبح الرحيل هو الحل. هل ماتت يامنة أم انتحرت؟ الزوج لم يسمح بتشريح الجثة؟؟ والنهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.
يخلق هذا الوضع ثنائيات هشة: الزوج مهاجر/ الزوجة مهجورة، يامنة / والد إسلان ، قانون الأسرة يبيح للزوج التعدد/ الزوجة معلقة (أسرة رشيد..) ، فؤاد/ ربيعة زيجة استثنائية شكلية مؤقتة، زواج أبيض له محددات أخلاقية واجتماعية ( السترة)
خارج الحدود، ثنائية كلود/ الزوج الطبيب الذي يمارس مهنته في مدينة أخرى ولا يأتي إلا في نهاية الأسبوع، تدبر كلود أمر الحرمان الجنسي باتخاذ عشاق وتتحول بفعل قيم السوق التي تتحكم في علاقات المجتمع الرأسمالي إلى مومس تبيع جسدها مقابل مبلغ مالي.
وتنشأ خلف ستار العلاقات الزوجية الشرعية المهترئة علاقات أخرى، فالمرأة المحرومة عاطفيا وجنسيا تلبي رغابتها بوسائلها الخاصة (نموذج الخالة خدوج ـ غيثة؟؟)
فشل هذه الزيجات ينعكس على الأطفال (حكاية رشيد النموذج)
هناك زيجات تعتبر جواز مرور للضفة الأخرى (الزواج الأبيض) ـ زيجات أباحها الفكر الحقوقي زواج المثليين ( ص122).
والبديل الإيجابي علاقة فؤاد وإسلان، حب يمتح من النضج الفكري والجسدي والمرجعية الثقافية الموسوعية والاختيار الحر الذي لا يرتهن للتقاليد والعادات.
تيمة الأسماء *
في الحياة الواقعية يختار لنا الآخرون أسماءنا أسماء ذات بعد ديني أو عرقي أو أسري. قد نحب هذه الأسماء أو نكرهها أو نتعود عليها وقد نغيرها لأن القانون يبيح لنا ذلك. أما في الكتابة الروائية فللأسماء دلالات ترتبط عضويا بالحكي فالكاتب يختارها بعد أن تكتمل صورة الشخصية في ذهنه: لذلك فالمستوى الدلالي أو الرمزي هو الأقرب لفهم اختيار الأسماء، في رواية الحق في الرحيل: فؤاد وإسلان يكونان ثنائية القلب/ فؤاد واللسان إسلان (جناس بين إسلان واللسان) ونستحضر جملة الإنسان بأصغريه قلبه ولسانه، هذا التوحد ينعكس على الكتابة، فحوار إسلان وفؤاد يكاد يكون مناجاة داخلية (مونولوج)، لذلك لا نستغرب عندما يوحدهما المصير، الموت الرحيم والحكم بالإعدام هو نوع من الموت الرحيـم. (موت اللسان موت للقلب)
رشيد: هو رشيد لأنه يتصرف بعقلانية ولا يكتشف إلا مؤخرا أن العقل ليس وحده كاف للنجاح خاصة في العلاقات الإنسانية.
موسى ـ قاسم يمثلان الحق في التناقض (اسم النبي محمد واسم النبي موسى) تيمة أخرى مخفية في النص (الدين؟؟)، ويبقى اسم يامنة أو أمينة اسما نمطيا رمزا للوداعة والوفاء والعفة.. ـ ربيعة يحيلنا الاسم على (نهر أم الربيع) مكون من مكونات المكان في الرواية.
تيمة الجسد *
إذا كانت كل رواية هي مغامرة سردية، فالكاتبة في رواية الحق في الرحيل تخوض المغامرة من خلال الكاتب الشبح فؤاد الذي يغادر حالته الشبحية عندما يلتقي بإسلان ليرتدي جسدا مرئيا بل مضيئا” أحسست بطاقة تخترق جسدي أصبحت مضيئا” ص 36
ومثل طائر الرخ ينبعث فؤاد من رماد عقود من الزمان ليحط الرحال في الجنة ص 25
الجنة سفر التكوين الأول، مكان عابر يهبك كل ما تتمنى ويتخلى عنك عندما تكتشف أنك جسد، فتهبط من حالق تتجاذبك قوتان: رغبة الروح في الانعتاق، ورغبة الجسد في الاحتراق. “وآدم و حواء بعد أن أكلا من هذه الشجرة ”ظهرتْ لهما سوءآتهما، والسَّوْأة كما جاء في التفسير هي العورة أي: المكان الذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه، إنه الجسد العورة والسوء والإخفاء والكتابة تعيد للجسد طهارته عبر تمجيد العري رغم أن صفة السوأة لا زالت ماثلة في الأعراف والعادات الاجتماعية التقليدية. والمخيال الشعبي.
اختيار فؤاد كراوي (راوي الرواة لسرد الحكايات) جعل الكاتبة في مأمن من الحرج، لأن الجنس، حسب رأي أحد النقاد، “موضوع مزعج أو مخجل، هو مساءلة للأسس الأخلاقية التي ينبني عليها سلوكنا.. مسألة الجسد ليست سببا في توتر العلاقة ما بين الرجل والمرأة بل هو سبب الصراع والتوتر بين ما يسمى اختصارا الشرق والغرب والفراش ساحة صراع بين الحداثة والتقليد“
وحكايات الجنس في الرواية شكل من أشكال الكاتارسيس يقوم به أصدقاء فؤاد في الحلقة عندما يقومون بالاعتراف بخطاياهم الجسدية أمام فؤاد ( مول الوليدات) الذي طهر نفسه عندما تزوج ربيعة زواجا أبيضا.
والجنس في الرواية أنواع: الجنس المباح قانونيا (الزواج) ـ الجنس المحرم (العلاقة بين ربيعة وصلاح) ـ الجنس السلعة ( بيوت الدعارة ـ كلود) ـ الجنس الخائن (غيثة / كلود/ الخالة خدوج)ـ ويسمو الجنس ليصبح عشقا (إسلان / فؤاد) ـ (يوسف/ مريم)
تيمة السياسة
الحق في الرحيل خطاب حقوقي مباشر، وبمعنى من المعاني فهو خطاب سياسي يدعو إلى رفع السرية عن الموت الرحيم بإعطائه الشرعية وضمه إلى لائحة الحقوق الإنسانية المعولمة.
والرحيل أصبح في زمن ما يسمى بالربيع العربي شعارا ارحل من رحل، تمتع بالموت الرحيم سياسيا (مبارك ـ بنعلي ـ على الصالح) ومن لم يرحل انقض عليه الموت الوحشي ( القذافي).
يمثل فؤاد ورشيد وحميد وإسلان نسيجا اجتماعيا اندمجت فيه فئات وطبقات مجتمعية مختلفة، ليكتسب في النهاية ملامح الطبقة المتوسطة التي اعتبرها علم الاجتماع صاحبة المصالح الحقيقية لقوة انتمائها للوطن وتشبثها بمرجعياته الثقافية، ولكونها ضمان الاستقرار والسلم الاجتماعي. وفي المغرب كما في الوطن العربي أجهضت هذه الطبقة لتعيش المنفى داخل الوطن، أو تتشظى ليستقبلها المهجر سواعد للبناء وافكارا للتنمية هناك. أما المثقف الذي يمثل العمود الفقري لهذه الطبقة فقد أصبح كاتبا شبحا يبيع حروفه مقابل المال (فؤاد) أو تاجرا تجرفه ماكينة النظام الرأسمالي (حميد)، ولم يبق من النضال السياسي الذي خاضته هذه الطبقة في الستينات والسبعينات غير مقاطع يرددونها من أغاني ناس الغيوان.
العودة إلى أرض الوطن مشروطة بفرص الاستثمار الاقتصادي، هنا أتساءل ما الفرق بين فيليب الفرنسي الذي اشترى منزل وأرض فؤاد لأغراض تجارية، وفؤاد الذي باعهما ليستثمر في مشروع تجاري في أكَادير.
ويحضر في الرواية الربيع العربي الذي انطلق من شرارة احتراق البوعزيزي لتنتشر في هشيم أوطان هرمت (هرمنا من أجل هذه اللحظة) بينما يعيش فؤاد حيرة اتخاذ قرار الموت الرحيم كواقع وكرمز، أما العلاقة بين خريف العمر ( فؤاد) وأوج الشباب إسلان (العروس) فقد يكون لقاءا بين شعوب (هرمنا) والثورة (كثيرا ما شبهت الثورة بالعروس) التي قدمها إعلام “الجزيرة” في أبهى صورة، لنكتشف أنها بريقا خلبا أشعل النار في هشيمنا ومضى.
:الرؤية للعالم *
ينطلق غولدمان في بنائه المعرفي للسوسيولوجيا الجدلية (البنيوية التكوينية) structuralisme génitique، من فكرة أن الظواهر الفردية يحكمها تجانس كلي يحدد رؤية ما للعالم. وبالنسبة له فالمجموع كله يتجلى في كل العناصر المكونة له، كأن يختزل بيت شعري داخل القصيدة الشعرية مجمل الاشكالية التي يتطرق لها الكل (أي القصيدة)، من ثم كان الكل وأجزاؤه بالنسبة لغولدمان يتفاعلان داخل النص الأدبي.
وإذا اعتبرنا أن لرواية “الحق في الرحيل” مستوى إديولوجيا سياسيا، فقد نقبل بأن الرؤية للعالم في النص هي رؤية مأساوية وأن الرحيل هنا يعني السقوط التاريخي. غير أن ما يخفف من مأساوية الرؤية أن الرحيل في مفهومه اللغوي مرحلة، طريق يقودنا إلى مكان آخر أو زمان آخر.
تيمة الرحيل *
الرحيل هو البداية، هو النهاية، وهو الحكاية هو الحلقة المستحكمة، كل الشخوص في الرواية ترحل إلى مكان ما، إلى زمان ما، إلى جسد ما، أو إلى حكاية تتردد في ليال السمر، اللامستقر هو المكان والزمان ـ كما أشرت سابقا ـ تهاجر الطيور بلا حقائب بلا إرث بلا يقين (مثل هيروكي) النص الموازي الثاني ص 52، سبيلها السماء والأرض للعائدين من الجحيم.
الرحيل هو الموت رحيما أو رجيما، هو الانتحار أو الحكم بالإعدام، والرحيل هو الهجرة إلى الذات (فؤاد) إلى الآخر إلى خارج الحدود إلى الفضاء المفتوح أو ببساطة إلى طبق من الطعام، إلى رائحة التوابل، إلى الشرق في حكمته وروحانيته (هيروكي) ص 50 . الهجرة إلى الوطن، فالذي هاجر من الوطن ليس هو من عاد، رغم أنهما نفس الشخص. الرحيل هو التغيير هو الرفض والاحتجاج هو الثورة ضد فقدان الكرامة ص 173
والرحيل هو الفصل الرابع الفصل الخير من الرواية. والفصل الرابع في الطبيعة هو الخريف.
الكاتبة أيضا ترحل من الشعر إلى السرد ومن السرد إلى الشعر في تناص جميل، ترحل من الطب إلى الإبداع فتحمل إلى الإبداع خبرتها الطبية، وإلى الطب تعمقها في النفس الإنسانية. ألم يعترف فرويد بأنه استلهم نظرياته في علم النفس من الكتابات الروائية وخاصة روايات دستويفسكي.
وفؤاد في الرواية عندما اقتنع أو كاد بقرار إسلان التي اختارت الموت الرحيم (Euthanasia) لإنهاء معاناتها، استشار “جوجل” غير أنه في الحقيقة استحضر خبرة فاتحة مرشيد الطبية التي قدمتها له بكل سخاء مع تحفظ واضح في اتخاذ قرار الموت الرحيم من طرف الهيئة الطبية ممثلة في رشيد الذي رفض رفضا قاطعا أن ينهي حياة إسلان الميؤوس من شفائها نزولا عند رغبتها وإلحاحها فقام بذلك فؤاد ليضع حدا لآلامها ويقدم نفسه للقضاء كقاتل فيحكم عليه بالإعدام.
رواية الحق في الرحيل رواية الإنسان في قوته وضعفه، في خطيئاته ونبله، في وقوفه أمام العتبة الأخيرة أمام باب الموت الموارب، فهل هو رحيل مثل كل رحيل سابق أم أنه الرحيل الأخير.
“الحق في الرحيل أو حق الذات في كينونة السرد الروائي حيث تموت لتحيا”، عائشة العلوي لمراني، كتاب “أوراق الربوة”، قراءات في الأدب النسائي المغربي، منشورات الرباط 2017.