0%
Still working...

الخصائص المتناغمة في رواية “التوأم” لفاتحة مرشيد، دراسة نقدية للشاعر/الناقد الدكتور أحمد بلحاج آية وارهام، بالعلم الثقافي ليوم الخميس 21 يوليوز 2022

الخصائص المتناغمة في رواية “التوأم” لفاتحة مرشيد
د. أحمد بلحاج آية وارهام


فاتحة مرشيد اسم منقوش في سماء الشعر والسرد العربيين بحروف من نور، لا يكاد يذكر إلا وتذكر معه الفرادة والجدة والاندهاش. كلما قرأت لها رواية انهالت عليك الأفكار والرؤى من حيث لا تحتسب. فمع كل لقاء بها في رواية ما من رواياتها تفاجأ بالبناء المتماسك لأحداثها فهي مدرسة في فن السرد خاصة، يستحيل على العين النقدية شرقا وغربا أن تتجاهلها، وإلا تكون قد تجاهلت نفسها، ونفتها.
فهي شاعرة وروائية استطاعت باقتدار وتبصر أن توفق بلين الحقل العلمي والأدبي، وأن تنتقل بين أجناس أدبية مختلفة ببصيرة وحكمة قلما تأت لغيرها من المبدعين، واتجاهات مختلفة، جعلت السرد لديها كونا من السحر فوّارا بالأبهة والمتعة.
ونعتقد أن هذا راجع إلى اتساع معارفها، وارتيادها مختلف الحقول المعرفية الانسانية، التي لا يمكن لأي مبدع أن ينتج شيئا متميزا إذا هو لم يشرب منها بحكمة عالية. فالدكتورة فاتحة مرشيد سلكت هذا المهيع، فاخصبت خطاها الابداعية وأعطت ثمارا في الشعر عالية النضج، جسدتها الدواوين التالية: (إيماءات) الصادر سنة 2002م، (ورق عاشق) الصادر سنة 2003م، (تعال نمطر) الصادر سنة 2006م، (أي سواد تخفي يا قوس قزح) الصادر سنة 2006م، (آخر الطريق أوله) الصادر سنة 2009م، (ما لم يقل بيننا) الصادر سنة 2010م، و(انزع عني الخطى) الصادر سنة 2015م. وثمارا في السرد مدهشة وآسرة، دلت عليها الروايات الآتية: (لحظات لا غير) 2007م، (مخالب المتعة) 2009م، (الملهمات) 2011م،(الحق في الرحيل) 2013م، (التوأم) 2016م، (انعتاق الرغبة) 2019م، و(نقطة الانحدار) 2022م.
إنه تنوع إبداعي متتال يؤشر على انصهار الدكتورة فاتحة مرشيد في مجرة الكتابة بهمة العارف العاشق، لا بهمة الهاوي. فهي تجمع الكل الإبداعي في قطرة حبر عاشقة، وذلك لأن مشاعرها أثناء الخلق تكون مشاعر الكون كله, لا تتحدد في شكل معين واحد، ولا في أسلوب وحيد الاتجاه. فالأفكار وما يعتلج في الذات وفي العقل الباطن، وما تكتمه الأسارير من امتلاك الأدوات الإبداعية ومواكبة التقنيات السردية، ومعرفة استخدام مفاتيح الكتابة ونحت الأفكار، تبنى وتولد على أساس أنها شكل من أشكال الغليان الروحي يأتي مرة شعرا، وتارة رواية، وأخرى قصة.
وفي (التوأم) نتفيا ظلال الحب.. ولكنها ظلال من نوع آخر، لا تبعث على الراحة والسكون والاطمئنان، بل على القلق والحيرة والتوجس. وهذا ما يجعل من الحب في هذه الرواية لونا غير ذاك الذي تجسده الأشرطة السينيمائية، بحيث يبدو تارة دون كرامة ودون أموال ودون عيش كريم، وتارة دون فكر ودون حرية ودون إحساس حي، بل هو حب يضفره الكره والمستحيل والشره ويباطه الصراع المقيت. يحاول أن يقتحم الغرف المظلمة ليكتب فيها استيهاماته، وأن يقفز على جدران العادات والتقاليد، جدار القوانين والأعراف.
إن المرأة في (التوأم) تبدو هاجسا وقطبا مهما في الفكرة والهدف والنتيجة، فيه نطلع على ما تعيشه المرأة عموما من اضطهاد حرمان بكل أنواعه وتصانيفه، ونتابع معاناتها والضغوط المجتمعية المنصبة عليها، والأقنعة التي يستخدمها الرجل لاستغلالها واستخدامها جسرا لأهدافه ونزواته، وقتل إنسانيتها. ولذلك نرى حضور كثير من المعارف العلمية بلباقة ومهارة في هذا العمل، كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الآثار والتحف، وكل ما يدخل في المنظومة السينيمائية من معارف تقنية وفنية. فالروائية تدمج هذه المعارف في بناء الرواية إدماجا تصبح معه لبنة من لبناتها الأساس. عكس ما يفعله بعض الساردين ممن يقحمون معارفهم التاريخية والنقدية والفلسفية في المتن السردي دون أن تكون متفقة مع البناء الفني والتخييلي للعمل.
تعطي فاتحة مرشيد هذه المعلومات لتعميق البعد النفسي والاجتماعي للشخصيات ولتطوير الأحداث وتعميق النظر في الرواية. لكن رغم هذا الكم الهائل من المعلومات النتي تزخر بها الرواية، تمتلك الروائية مبدأ البساطة الذي يتمظهر في اللغة والحكي، وتبتعد عن التعقيد والغموض، وذلك ما أعطى لرواية عمقا إنسانيا ومتعة قرائية مسترسلة تروم السير بالقارئ إلى اكتشاف الذات الإنسانية وما يعتمل بداخلها من تناقضات تجمع الخير بالشر، والحب بالكره، والإقدام بالإحجام، والبحث عن الحقيقة والخلاص من لعنة الماضي.
تنفرد هذه الرواية بتعدد (موضوعات)ها اللافتة للنظر، وبثلاث سمات أساسية فيها بارزة:
أولها: متانة البنية المعمارية.
ثانيها: المقاربة السينمائية من حيث الشكل والمضمون.
ثالثا: تشابك نفسيات شخوصها تشابكا تضاديا يخصب التأويل.
ففصولها الأربعة تكتظ بما يغري بالمتابعة والكشف، لأنها تشكل لحمة النص وسداته. إذ بها تم الهيكل الروائي وهي: “لغز التوائم”، و”الحب المستحيل”، و”الهوس الشبقي”، و”متلازمة ستندال”. ثم تليها (موضوعات) متممة للنص الروائي ومخصبة له، كموضوع “الشيبانيين” المغاربة في فرنسا، والهوس بالتحف الفنية، والعزلة، والتسامح، وما إلى ذلك من قضايا علمية وثقافية عالية. ولقد استطاعت الروائية ببصيرتها الفنية أن تروض هذا المعطى العلمي وتذوبه في نسيج النص السردي، وتجعل منه عنصر تشويق ينطوي على كثير من المعلومات المثيرة، التي هي أقرب إلى الكشوفات النفسية منها إلى أي شيء آخر. فهي قد وضعتنا أمام ثلاثة توائم. ولعل القاسم المشترك بينها جميعا أنها لا تستطيع العيش بمنأى عن أنصافها المشطورة، لأنها تموت، بشكل أو بآخر، إذا ما انفصلت أو تباعدت قسرا.
وعليه، فإن (التوأم) رواية مكتوبة بعين سينيمائية، لا لأن شخوصها الثلاثة يحترفون العمل السينمائي، بل لكون تعالقاتها النصية مع اقتباسات شذرية لعدة مخرجين سينمائيين هي التي جعلتها أشد علوقا بهذا الميدا. ولا شك أن ضوء الحب هو الذي قاد هذه العين. فالمخرجا السينمائي الحالم مراد تزوج من نادية بينما كان يحب شقيقتها نور. لكن هذه الأخيرة وقعت في حب الروائي كمال الخلفي. وعلى الرغم من انفصالهما المفاجئ فإنها كانت تفكر به، وتريد أن تعرف لماذا تخلى عنها بهذه السرعة. فالرواية حقل ملغوم بالمفاجآت، أشدها عنفا وقوة مفاجأة “الحب المحظور” المتقد في فؤاد مراد دون أن تشعر به نور، أو تعلم به نادية المنغمسة في عملها إلى حد التفاني.
ف(التوأم ) إذن هي رواية مكتوبة بعين سينيمائية للشاعرة تشدك إليها الخصائص المتناغمة التالية مجتمعة:
1ـ الثقافة الرفيعة التي تتوغل بك في حقول تتضامُّ، وإن ظهرت لمن ليس له عمق ثقافي متباينةَ الوشائج.

2ـ التجربة الكاملة الملمَّةُ بميكانيزمات السرد، ومناطق غواياته، التي تجعل المتلقي يتعرَّى من ثياب مألوفاته، ويلبس ثياب المسرود، وكأنها من نسجه.

3ـ الذوق المرهَف الذي يقود السردَ إلى تخوم الفتنة، ويمنحُ لكل نظرة دعامة، ولكل خاطرة ولمحة سنَداً، ولاشتغال الحيوات في الفضاء الروائي أساساً مُقْنِعا.

4 ـ الخيال الذي يُغَذِّيكَ من شجرة ما لا يُرَى بفواكه لم تتذوق من قبل طعمها فيما وَلجَ إليه عقلكَ من بساتين الرواية وجنانها.

5 ـ الضمير الفني الذي يوجه الخصائص السابقة حتى لا تنحرف أو تجور، ويضع لها الصُّوى حتى لا تضل وتقع في فخاخ الأهواء العمياء.

هي خصائصُ خمسٌ تفتحُ عيون جوانيتك على هذا الجسد الروائي لتكرع من بهائه مع أهليك وذويك كؤوس متعة بيضاء، لم يشُبها ابتذال أو حماقة حمراء. تسافر فيها مع المخرج السينمائي الذي يقول لنا صوتُ دواخله:” إنني لا أملك ترف الشكوى لأنني ببساطة، بالمفهوم المتداول، إنسان محظوظ، ويغبطني الكثيرون.. وربما ستجدون بدوركم أنه يجد ربي أن أشعر بالسعادة..ومع ذلك”.
هذه ال” ومع ذلك” هي مشكلة المشكلات التي ستجعل الأحداث تتبَرْكَنُ في الزمن النفسي للروائي كمال الخلفي وطليقته الممثلة (نور)، الشابة ذات الوهج الصاعق، و(نادية) المشتغلة في نفس المجال السينمائي الذي يشتغل فيه زوجها، و(موريس كوهن) المتهوِّس باقتناء الأشياء العتيقة والتحف الفنية وعرضها في الغاليري الخاص به، لأن الوله بها بالنسبة إليه أهون من الولع بالإنسان.
هل القدر هو الذي يجعلنا نقع في حب شخص ليس من حقنا الارتباط به؟
أكيدٌ أن هذه الخطوة هي التي عصفت بوجدان المخرج السينمائي، فهو قد عشق (نور) أخت زوجته(نادية)، دون أن يضع في حسبانه أن النساء وحدهن هن اللائي يمتلكن ترف الاختيار عندما يتعلق الأمر بالحب. فقد سبح من غير تفكير في نهر جارفة تياراته، فانتثرت أعضاء حياته على صخور الواقع المسنَّنَةِ، وفقد معنى الحياة حين خال أنه سيضع من يُحبه في قفصٍ يضمن فقدانه، ولم يَجُل في خَلَده أن كل يقين بامتلاك الآخر ما هو إلا وهمٌ، وبخاصة ـ كما تقول الروائية ـ “إذا تعلق الأمر بحب بين البشر”.

نعتقد أن رواية “التوأم” مدرسة في السرد، تُعلمنا الفروق بين الحرية والفوضى، وبين العاطفة المتَّزِنة والعاطفة المتهورة، وموقعهما من الجمال الفني. فالفن الجميل هو مدرسة التناغم كما هو مدرسة اكتشاف الجمال في أبسط الأشياء المحيطة بنا. فهل في ذلك عجب؟
شكري ضوء مغزول بيد القلب للشاعرة الروائية الدكتورة فاتحة مرشيد على هذه الهدية التي أحيت بها رميم حياتي.

الملحق الثقافي لجريدة العلم
ليوم الخميس 21 يوليوز 2022

Leave A Comment

Recommended Posts