فاتحة مرشيد
التهمة شاعرة أو الشعر والحكمة
أحمد العمراوي
من هو الكاتب؟ من هو الشاعر؟ لا نقصد المستوى المهني في سؤالنا، نقصد المفهوم المرتبط بالبات. بات الكلام ومنشئه.
الشاعر لسان القبيلة والكاتب مرآة المجتمع، هكذا كان ينعت، وما زال، في لاوعينا على الأقل، فهل يكفي هذا التعريف بالكاتب والشاعر؟
قد ترتبط المسألة بجهة ما قلما يتم الالتفات إليها، إنها الإفشاء والمعالجة. المشفي، المعالج، المساعد على الكلام والإنصات. إنه الحكيم والطبيب. فهل يعني هذا أن القارئ محض مريض والكاتب هو الطبيب؟ ليس هذا قصدنا بما أن لكل واحد أمراضه الصغيرة والكبيرة، كاتبا كان أم قارئا المقصود هو الحاجة. حاجة القارئ للكاتب، وحاجة الكاتب للقارئ. ومن هنا جدلية الصحة والمرض.
الكاتب طبيب يداوي بالكتابة، تماما كالمحلل النفسي الذي يداوي بالإنصات للكلام، وكطبيب الأمراض العضوية الذي يداوي بالإنصات والكلام والدواء الكيماوي.
-2-
إطلاق اسم الحكيم على الطبيب قديما عند العرب لم يكن عبثا أو مصادفة، وإنما بإصرار على ما للكلمة من دلالة. الحكمة هي فلسفة الحياة، والطب هو فلسفة الجسد، ولا حياة ولا فلسفة بلا جسد. وحين يوصف الطبيب بالحكيم فلإدخال معطى ضروري هو النفس والجسد. الحكيم يذهب الأرواح الشريرة لكونه يمتلك الحكمة في الكلام وفي متابعة أحوال الجسد المرتبطة بالروح، ويزداد الأمر أهمية حين يكون المداوي امرأة طبيبة حكيمة. وحين يكون الاختصاص طب الأطفال، فهنا قمة الحكمة.
-3-
ما العلاقة بين الكتابة والطب؟ هل تؤثر مهنة الكاتب الذي يقتات بها ويقيت بها أبناءه على مكتوبه ؟ قد يكون الجواب بالإيجاب، وقد يأخذ طابع النفي، حسب الكاتب ورؤيته للناس والأشياء. وفي كل الأحوال فالكاتب والشاعر الحق هو كائن يعيش في الكتابة وتعيش فيه دون فصل عن أشيائه الخاصة المرتبطة بذاته وتجربته ومهنته. قد يبالي أولا يبالي ما دام الهمّ الشعري والروائي يسكنه ولا مفر له إلا بالإفصاح أو الموت. تقول فاتحة مرشيد الشاعرة و الروائية و المختصة في طب الأطفال :
لن تنال مني
هذي الظهيرة
ما دام لي
موعد مع القمر . ( ورق عاشق، ص: 69 )
الموعد مع القمر هو البحث عن الخيال الذي لا يمكن لأي كاتب أن يعيش بدونه. فإذا كان مجال الطب الأول هو مجال التجريب والجراحة المادية من أجل الإشفاء، فإن مجال الكتابة هو الإشفاء بإخراج الكلام الملتهب.
يلتهب
وبجرة قلم
يخلع عنه الصمت ( فاتحة مرشيد )
-4-
فاتحة مرشيد شاعرة وروائية وطبيبة أطفال، تداوي آلام الكبار بمداواة أبنائهم، تنصت وتكتب وصفات تَحُدّ من الألم، وتعود فتكتب للإمتاع وهو دور آخر لمخالب المتعة . والأساس في الدواءين هو اللغة كلاما وكتابة. وفي التبدء كانت الكلمة.
لا أتصور وجود عصر بدون أطباء، وبالمقابل لا أتصور وجود عصر بدون كتاب. فكم في المغرب من طبيب ؟ وكم فيه من طبيب أطفال ؟ وكم فيه من شاعر؟ وكم فيه من شاعر وكاتب طبيب؟
هل هذا العدد كاف لحوالي.35 مليون نسمة في المغرب ؟هل يتزايد أو يتناقص عدد الكتاب ؟
الأدب في خطر صرخة قوية أطلقها تودوروف وهي تنطبق على كل محالات الثقافة بمفهومها التخيلي التقليدي كما تعرفه مكتوبا على الأقل.
بيضاء
عطشي للسواد
……….
تستجدى الأنامل ( ورق عاشق، ص:107)
هكذا هي الورقة، تنتظر الكاتب بعطش. الورقة البيضاء والقميص الأبيض، كلاهما يود افتضاض السواد. الهدف واحد: الطب والحكمة، والكتابة والإمتاع.
من أهم أدوار الطبيب الحكيم مؤانسة وحشه المريض المعالج. مصاحبة ضرورية. الدور نفسه يلعبه الكاتب، المصاحبة الضرورية للقارئ لإمتاعه و مؤانسته.
الشاعر خالق فرح للناس. عاكس همّهم الصغير والكبير. مداوي جرح الفراغ. دواء بدواء. يكتب الشاعر ليداوي جراحه أولا، ومن ثم فهو يكتب كذلك لمؤانسة جراح الآخرين، والشعر دواء ذاتي من المفروض أن يتمتع به كل الناس بما أن في كل منا يرقد شاعر وما علينا سوى إيقاظه. وقد لا يكفي الإيقاظ، لا بد من رعايته و متابعته وتتبعه وهو يكبر. الطبيب المعالج قد يلازم من يرعاه بالمتابعة و الملازمة مدة طويلة.
الشاعر و لكاتب يلازم مكتوبه كذلك وقد يَحذر من القارئ، وقد لا يعيره اهتماما، ولكن القارئ حاضر في لاوعي الكاتب باستمرار. تأثيره مستمر، ونحن نحتاج إلى الاعتراف من قبله ولو سلبا.
يشعر الطبيب بلذة عارمة وهو ينهي عملية جراحية كللت بالنجاح، وهو يساعد سيدة على وضع مولودها بشكل سليم، هو محيي وباعث حياة.
الكاتب يُدخل البهجة على الآخرين ولو بالأسئلة الخلاقة، يدخل البهجة بإدهاشه الآخرين ويتمتع بذلك. ينتظر أحيانا من يثمن أو ينقذ كلامه، هو يعيش بالآخرين، تماما كشهرزاد التي تحتاج لآخرها وهي تحكي. تحتاج لشهريار المستمع، ولكل الآخرين الذين ركّبتهم في حكيها من أجل علاجه. كذلك الطبيب، والكاتب، والفنان، والرسام، والممثل…
-5-
جرح الورقة بالقلم كتابة وجرح الجسد بآلة جراحية كل منها يأتي استجابة لرغبة ما. فهل هي رغبة الكاتب أم رغبة القارئ. رغبة المعالِج أم رغبة المعالَج؟
في إحدى حكم أبي قراط الطبيب الذي ولد سنة 450 ق.م على الأرجح، والتي تضمنتها مدونته يسرد ما يلي : ” الحياة قصيرة، والفن طويل، المصادفة عابرة، والخبرة خادعة، والحكم صعب، يجب ألا تفعل ما تقتنع به وحدك، لكن يجب أيضا أن تفعل ما يتفق عليه المريض، والمساعدون والعالم الخارجي ” (تاريخ الطب ، سلسلة عالم المعرفة ع : 281 مايو 2002 ص : 49)
نحتاج إلى الآخر في كل الأحوال. هو المكمل والمؤشر ومُجيز الكلام. أنا مراقب من طرفه مهما يكن، وهو أيضا من المفروض أن يكون مراقبا من طرفي. اختيار جنس الكتابة يأتي بناء على ذلك. على العالم الخارجي، فتحصل الكتابة : شعر، رواية، قصة…
ضرورة القارئ المعالَج ستتحول في حالة الكتابة إلى ضرورة الكاتب المعالِج. أخذ وعطاء. وقديما كان الملوك والأمراء يتبادلون الأطباء كهدايا فيما بينهم من أجل الخدمة. وكان الكتاب العرب، والشعراء منهم خاصة، يتناوبون على الحكام من أجل الخدمة. تثبيت الحُكم يأتي من الكاتب، من مُقِر الكلام. وإذا لم يأت الكلام في محله تماما فقد يقع القتل.
الطبيب المعالج في شريعة حمورابي كان يجازى حسب المرض ونوعه، وحسب دقة الجراحة. دواء أو جراحة لنبيل أو عبد أو تاجر، وإذا قام الطبيب بإجراء عملية جراحية كبيرة لأحد النبلاء منقذا حياته فإنه يحصل على عشرة من الشيكلات الفضية، أما إذا توفي هذا النبيل فتقطع يد الجراح، وأما إذا تسبب الطبيب في وفاة أحد العبيد فإنه يقوم بتعويض صاحبه بعبد آخر. (عالم المعرفة، ص 25)
يحصل هذا في الطب، ونحن نخوض في استعارة رمزية لأحوال الكتابة والكتاب، فهل كان يحصل الأمر نفسه في مجال الكتابة؟ من الأكيد أنه حصل و لكن بطريقة أخرى. فالكثير من الكتاب والشعراء يُجازون في حياتهم على مكتوبهم، مشاغبا كان أم مهادنا أم مكرِّسا لوضع اجتماعي وسياسي. وبعض الكتاب الملتزمين بحرقة الكتابة يجازيهم التاريخ واعتراف الناس بهم ولو بعد موتهم، الكتابة الحارقة والجريئة كالطب المعالج لاختلالات الأجساد الكبيرة والصغيرة.
فاتحة مرشيد تكتب بحرقة المعالِج من أجل المعالَج. كتابة ضرورية تحقق المنفعة رغم كثرة المخالب.
مقهى رندا 6/11/2009