0%
Still working...

لفاتحة مرشيد “لحظات لا غير ” الارتقاء في مدارج العشق والشعر قراءة في رواية

د. العربي الرامي:

هل بمقدور سلطان العشق المارد أن يعيد  لذوات، استحوذ عليها اليأس والقنوط، هبة حياة يتفجر من خلالها الجمال تفجيرا، وأن ينتزعها من شرنقة الرتابة والملل والفراغ واللاجدوى؟ هل بوسع هذا الإحساس الفائر، أن يمد هذه الذوات المنهكة بقوى لا متناهية لإزاحة كل المعيقات التي تعكر صفاء الحياة وبهاءها، معلنة انتصار الأمل على الألم، والفرح على الحزن، والحميمية على الغرابة، والحياة على الموت…؟ هل بوسع هذا الينبوع الذي يتفجر على حين غرة بين الأحشاء، أن ينمو ويكبر، دون أن تقوى على كبح جماحه ولجم خيوله الهوجاء، فيحملها على إعلان صلح لا مشروط مع النفس والجسد والروح، بعد طول جفاء وتجاهل.

نعم، بإمكان زلزال العشق المدوي أن يخلف كل هذا التشظي الجميل والزوبعة الخلاقة، فيحملها للتو على نسيان جراحاتها القديمة، والعودة إلى الانهمار في الحياة من جديد والارتماء في شتى أنحائها بنهم وسخاء كبيرين، مصرة على اقتناص لحظاتها، حتى وإن بدت هاربة وغير مكتملة… نعم بوسع هذا الزلزال، الذي لا تقيسه سلاليم “ريختر”، أن يحول شدة الألم ووطأته وجسامته، إلى قوة مفجرة للإبداع، ويجعل من شبح موت، مرعب ومخيف، فرصة مانحة للحياة، ومراهنة حقيقية على الاستمرار والخلود.

 ذلك ما  تسعى إلى تمثله الطبيبة والشاعرة فاتحة مرشيد من خلال روايتها “لحظات لا غير”، التي كتبت بلغة شفيفة ورقيقة ومحكمة، وأسلوب شاعري يكتم الأنفاس…حيث أمكننا التحليق عبر هذا “اللحظات السردية” المتوهجة في عوالم مفعمة بالرومانسية والحلم والرمز والمعنى، عوالم ينجدل فيها العشق والبوح والشعر والحب والحياة والموت، لتتبدى الكتابة أشبه ما تكون، بقطرات عطر معتق تتسرب عبر المسام مستنفرة جميع الحواس، وهو أمر لا يبعث على الاستغراب طالما أن المبدعة جاءت إلى فضاء السرد، بعد أن خبرت أدغال الشعر وأوديته العميقة، ونثرت على صفحاته الخالدة، دواوين مميزة، تتقطر حبا وعشقا وإشراقا وحزنا وابتهاجا، نذكر هنا: “إيماءات” 2002 “ورق عاشق” 2003 “تعال نمطر” 2006 “أي سواد تخفي يا قوس قزح”2006

لم تستطع، فاتحة مرشيد، في أول سفر، ماتع وجاذب، إلى فضاء السرد أن تتخلص من مكائد ذلك المعشوق الأول، فالشعر ظل شريانا متدفقا بين تضاريس “لحظاتها السردية الحالمة”، من خلال قصائد وأبيات لشعراء ذكرتهم بأسمائهم، عزت سراييج، لويس كارسيا لوكا، خوصي أنجيل بالنطي، خورخي لويس بورخيس، رسول حمزتوف،…وغيرهم، ونصوص أخرى نسبت إلى الشخصية المفترضة “وحيد الكامل”، التي كان لها المفعول المعناطيسي في إيقاظ هذا الحب وإضرام نيرانه. سالت مياه الشعر، عيونا وأودية وأنهارا، بين أطراف السرد المترامية، وبسط سلطان الشعر نفوذه على النص إلى آخر لحظاته، ليتأكد أن الشاعرة فاتحة، وإن أصرت على تقديم تجربة، مكتنزة بالحب والعشق والهوى الجامح والغرام الطافح والألم والمرض والموت، في قالب سردي، فإنها بقيت تحث تأثير نافذ لمقومات الكتابة الشعرية، أكثر من ارتهانها إلى أبجديات السرد.

ينهض السرد ناعيا قصة صاخبة ومثيرة، لتتحول الرواية في مجملها إلى استرجاع باذخ لذكرى متوهجة، للحظات عشقية ساخنة ومشتعلة، بين الطبيبة النفسية “أسماء الغريب” والأستاذ الجامعي، الشاعر “وحيد الكامل”، التي تشي أسماءهما المركبة بكل مقومات التفرد والسمو والكمال والارتقاء، لحظات رأت أولى خيوطها النور بعد أن زار وحيد عيادة الطبيبة أسماء، إثر خروجه من تجربة انتحار فاشلة، وفي أولى الحصص العلاجية ستدرك أسماء أنها أمام مريض لا يشبه المرضى في شيء، مريض استثنائي، كما تشي بذلك حركاته وأجوبته المشاكسة، مريض يبدو أنه كسب الجولة الأولى من النزال، تقول أسماء في هذا السياق:

“وهكذا أنهى اللقاء الأول لصالحه.

لم أستطع أن أحدد إن كان هذا اللقاء أو ما يسمى ب”التحويل” في علم النفس سلبيا أم إيجابيا.  أحسست فقط أنني أمام مريض غير عادي” ص 10

تنجح هذه الشخصية الاستثنائية، المثقلة بالشعر والفلسفة والحكمة والتجارب العاطفية المتحررة من كل قيد، والتي نضجت على إيقاعات باريسية صاخبة، تتماهى فيها موسيقى جاك بريل بوجودية سارتر، منذ البداية في إقحام الطبيبة أسماء، التي يفترض أن تكون في موقع أقوى، باعتبارها المالكة لمفاتيح العلاج، ضمن شرك نسجت خيوطه من الحب والعشق والهيام، حيث ستندفع بسخاء للبحث في أشعاره ليس فقط للإمساك ببعض الخيوط الموصلة إلى فهم حالته وإصلاح اختلالاته، ولكن إرضاء لجروح غائرة، ولفضول قديم في القراءة والكتابة أجهضتهما مدرجات كلية الطب الباردة. غير أن ذلك لم يزدها إلا تعلقا بمريض يجر وراءه فداحة اليتم وخسارات عاطفية وسياسية متعددة، تقول أسماء:

“تحمل أشعاره من السوداوية ما يشدني…نجحت في تدميري ذلك الدمار الجميل الذي أعشقه والذي يغذي القارئ ويرمم دواخل لا تستقيم إلا بالحرف.

أعادتني إلى سنوات صباي البعيد حيث كنت أكتب محاولات في الشعر والقصة يقرؤها أستاذ اللغة العربية على مسامع الفصل…

أتساءل الآن، بأسف، كيف استطاعت مقررات كليات الطب بثقلها أن تجرد الطبيب من كل الغذاء الروحي الذي يحتاجه كي يظل أنسانا هو المطالب بتطبيب الإنسان؟” ص 16

لم يتوقف مفعول هذه الصعقة اللامتنظرة عند هذا الحد، فشخصية وحيد الكامل اخترقت كيان الطبيبة، وظل بوح الشاعر يعيدها في كل مرة إلى ذاتها ويدفعها إلى استعادة خساراة منقضية، بكثير من الألم والمرارة، خاصة خسارتها العاطفية مع جراح القلب، الذي لم يتمكن من جس نبضات قلبها يوما، ولا نجح في اكتشاف تضاريس جسد مكتنز باللذة والاشتهاء، لتنتهي حياتهما، بعد عشر سنوات عجاف، إلى طلاق مبين بطلب منها، تقول البطلة أسماء عنه:

” هو جراح قلب ناجح يقضي يومه بين الأذين والبطين ويعرف كل أنة للقلب من خلال التخطيط الكهربائي…لم ينجح في تحسس نبضي.

تقاسمنا الطموح نفسه، التحديات نفسها واكتشفنا يوم نجحنا، مهنيا واجتماعيا، فظاعة فشلنا العاطفي” ص 34

سيحملها هذا الانجذاب المفعم، بعشق مازال طي الكتمان، وبعد أن تصالحت مع الروح، حين عادت لمحراب الكتابة، إلى التصالح مع جسد ابتلي بسرطان الثدي، لينتهى الأمر باستئصال أحد أهم الأعضاء المبرزة للأنوثة، وهكذا ستقرر السفر طوعا إلى باريس لإجراء عملية تجميل لطالما رفضتها في السابق، وفي تلك الأجواء الباريسية ستصر على ارتياد نفس الأمكنة والفضاءات الحالمة التي عبرها وحيد الكامل، وفي كل مرة كانت تسلك تلك الفضاءات الضاجة بالحياة والباعثة على التأمل، يستفزها شيطان الكتابة، فتنسكب أنهار الروح معلنة بداية التخلص من جفاف ما أطوله وأقساه.

عادت أسماء من باريس بعد إجراء العملية بنجاح، وانخرطت بشغف في حياة مفعمة بالحب والأمل، وبعيدا عن الروتين القاتل واليومي المبتذل، ستستعيد علاقتها بالجرائد وبقاعات السينما والمسرح وبالقراءة وبالكتابة… فخورة بنهدين نافرين…وإن كان أحدهما من السيلكون…قادرة على التمييز بين الأولون وأصناف العطر التي تتناسب ولقاءات حالمة مع وحيد الكامل، في مقهى “الشروق” بكورنيش البيضاء. وإذا كان لا بد لكل جسد من فاتح، يملك دون سواه شفرته التي تسمح بولوجه، وبعث الحياة في أوصاله المتجمدة، فيبدو أن “وحيد” أدرك لوحده هذا الرمز السري للطبيبة، بعد أن أخطأه الطبيب لعشر سنوات من زواج فاتر، وهاهو الجسد “الأسمائي” الموات يستعيد دهشة الحياة على الشط تارة، وفي غرفة وحيد أخرى، حيث  تتهاوى أقفال قلاعه الحصينة على إيقاعات الهمس واللمس، فيبدو الكون جنة مترامية الأطراف، والحياة ممتلئة كثدي عطوف.

وحيد الكامل سيأخذه، هو الآخر، هذا العشق بعيدا عن باحة الانتحار حيث استعاد رغبة جامحة في الحياة، كانت قد وصلت عتبة الإفلاس، وأشرفت على إحراق ما تبقى من أوراق عمر خاسر، عاد وحيد إلى الكتابة، بعد أن هجرها مليا، ليصدر ديوانه الشعري “أبراج الروح”. لقد كانت في حياته امرأة أخرى هي سوزان التي يعتبرها ملاكا سقط عليه من سماء باريس، انتشلته من حياة التيه والضياع والكحول، وشملته بكرم وسخاء عاطفيين، قناص محترف يجيد مهمة الكر والفر في ساحة الجسد الأنثوي، ويمكن أن يظفر بالطريدة متى وأنى شاء. غير أن حياة مثل هذه، خاوية من العشق والدهشة لا تليق بشاعر، ولهذا السبب وجد نفسه أسير شرك الاكتئاب، المفضي إلى الانتحار. لقد كان القدر رحيما حين وضعه بين أيدي طبيبة حالمة ومثقفة هي أسماء، التي أتاحت له فرصة غامرة للخروج من نوبة الاكتئاب التي أصابته، واستعادة متعة الحياة والعشق التي أجهضتهما السحاقية ماريا في صخب باريس ذات مساء.

لم تأبه أسماء بأي تهديد، وهي تتوغل في ساحة العشق بروح هائجة ومتدفقة، لم توقفها تهديدات سوزان ومناوراتها، ولا محاكمة هيئة الأطباء، ولا المحاولات المتكررة لصديقها، في المحنة والمهنة، البروفسور عبد الرحيم الطويل، ليؤول الأمر إلى انتصار العشق على كل المعيقات، حيث تزوجت أسماء بوحيد ضدا على كل الأعراف، وقضيا شهر عسل يتقطر حلما وشعرا وحبا ولذة، في مدينة البندقية الملهمة، يعدل ما يفترض أن يكون قد تبقى لهم من أعوام، غير أن قدر الحب العظيم أن يطوقه المستحيل، فهاهي لعنة المرض الخبيث تعود مرة أخرى لتطارد هذا الزوج الراقي الفريد، أصيب وحيد بسرطان الرئة ووصل الأمر حدا تضاءلت معه فرص الشفاء، بعد أن سبق أن طال خبثه نهد الطبيبة أسماء، ليعود شبح الموت من جديد، وفي أعنف صوره، معلنا نهاية لحظات حالمة لا غير؟؟؟

تقتنع أسماء، التي كانت تتمنى استمرار هذه اللحظات المتوهجة، أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش جسديا أكثر من حياة واحدة …أن يبقى إلى ما لانهاية، فالأجساد تكبر وتشيخ وتتلاشى لتختفي تماما من الوجود، كما هو حال الموجودات الأخرى، لكن الإنسان بما أبدعت أنامله الناعمة من كلمات متدفقة، بالشعر والحكمة والفلسفة، يستطيع وحده، أن يمتد بعيدا في محراب الزمن، ليعانق الوجود المطلق، الوجود السرمدي والأبدي.

لقد تحول العشق على امتداد السرد إلى قوة علاجية كبرى، فبواسطته تمكنت كل من أسماء ووحيد من الهروب من فضاعة كبرى تحمل اسم العالم وإضافة مساحات أخرى للحلم والكتابة، للهروب من اليومي ومقاومة الفراغ والرتابة والملل، للانعتاق من شرنقة واقع تحول، بجميع مؤسساته، إلى متاهة سجنية كبيرة. لقد أوصلت الرتابة وحيد وأسماء حد الشعور بعدمية الحياة ولا جدواها، لكن قوة، العشق وتوهج الحب والهوى، الذي نشطته الشبكة العنكبوتية، أصلحت ما أفسده الدهر، وأتاحت للبطلين معا مقاومة عنف الزمن ومواجهة الألم والمرض والموت المرعب.

من هنا فإن فاتحة، وعبر هذه اللحظات المستعادة، تدعونا إلى التفكير بجرأة في عواطفنا وأحاسيسنا، في علاقة الرجل بالمرأة، الذكر بالأنثى، بعيدا عن مؤسسات أفرغت هذه العلاقة من كل الأشياء الجميلة، وحولتها إلى غرفة إنعاش تجثم عليها البرودة وتعلوها العتمة، خاصة في صفوف طبقة اجتماعية راقية، تنتشي بمنجزاتها المهنية، في الوقت الذي تغتال فيه، دون أن تدري، سحر الحياة الثاوي في أعماق الروح، ولا تلقي بالا، عن قصد أو عن غير قصد، لرغائب جسد ظمآن إلى الارتقاء في مدارج اللذة.

ختاما، نقول بأن فاتحة نجحت، عبر هذه اللحظات، في حبك قصة عشق آسرة، مفعمة بالحب والعشق والإيروسية، التي لا تفضي قطعا إلى الانحدار إلى درجة البوهيمية، حيث السيادة للمنطق الغرائزي فقط، فإشباع نزوات الأجساد وإرواء ميولاتها الجنسية، لم يزد هذا الحب إلا بهاء ونظارة ورسوخا، والأجساد إلا ارتباطا وانشدادا إلى بعضها حد الانصهار والتماهي. فكأني بها خاشعة في محراب صوفي، حيث الحنين إلى ذلك الأصل الأزلي الذي كانته ذات مرة، قبل أن يحدث الشقاق والانفصال في الفردوس الأعلى.

جريدة العلم الثقافي السنة 38 السبت 6 مارس 2008

Leave A Comment

Recommended Posts