لم يكن تأجيل الأمومة عند فاتحة مرشيد مرتبطا بالرغبة وحدها أوإكراهات الدراسة التي اقتطعت من وقت الزوجة ثماني سنوات بعد الزواج، بل كان تأجيل هذا المشروع نابعا أساسا من تخوف وقلقٍ صاحباها، من تكرار تجربتها هي التي عاشت طفولة كلها فقد وحنين وفراقات.
ففي غياب الأم المثال، ولأن صورة الأم كانت مهشمة بداخلها، كان على فاتحة قبل أن تفكر في الأمومة أن ترمم أشياء كثيرة بداخلها، مؤمنة عميق الإيمان بأن فاقد الشيء لا يعطيه ، هي التي تربت بعيدا عن دفء حضن الأم التي كانت بدورها محرومة من هذا الإحساس بوفاة والدتها وهي رضيعة . كان يحدوها خوف من هذا المجهول الذي تتحرق شوقا إلى حدوثه، وفي نفس الوقت قلق وتخوف من الفشل خصوصا إذا كان القادم أنثى، متوجسة من إسقاط ذكريات الماضي عليها ما سيعقد العلاقة بينهما.
هذا الخوف صاحب فاتحة حتى بعد أن حسمت أمرها على خوض تجربة جديدة في حياتها، واستعدت لتجريب إحساس الأمومة ست سنوات بعد زواجها.
بعد ولادة ابنتها البكر، كان كل تصرف من فاتحة الأم محط تساؤلات، خوفها، قلقها، ردود فعلها على تصرف طفلتها، وهو ما جعلها تلتهم كتب علم النفس لتحلل تصرفاتها وعواطفها قبل أن تدرك أن الأمومة حب قبل كل شيء، حب غير مشروط تتشابه فيه كل الأمهات ومنهن والدتها. تقول: “لا توجد وصفة جاهزة للأمومة، هو تعلم مستمر من أخطائنا أساسا. كل أم تقوم بما تراه الأفضل لأبنائها حسب الإمكانيات المتاحة لها ماديا وفكريا ونفسانيا.. كل واحدة منا هي ثمرة إرث خلفه التاريخ العائلي الذي جبلت منه.. ولهذا على الأبناء ألا يستعجلوا في الحكم على أمهاتهم وآبائهم.”
تعترف فاتحة أن الأمومة دفعتها إلى الاشتغال على نفسها وصالحتها مع والدتها بل منحتها نضجا كبيرا، حيث تقول “أمومة رمّمت أخرى”. كما أنها كانت كذلك فرصة لوالدتها لتدارك ما ضاع منها كأم فكانت لحفيدتها جدةَ رائعة.
مع ابنها الثاني سيتغير الأمر كليا فقد تجاوزت مخاوفها الأولى كما أنها في طفولتها جربت معنى أن تعيش وسط ثلاثة ذكور وأب، وهو ما منحها أمانا أكثر وحرية في تعاملها معه، أمان كان يبادله الطفل الصغير بحب وتقديس لصورة الأم.
تعترف فاتحة أنه – رغم حبها اللاّ متناهي واللآّ مشروط لأبنائها- بأن الأمومة ليست كل حياتها بل جزءا مهما منها، ولكنها في اللحظة التي يكون أبناؤها في حاجة إليها تصبح أولوية الأولويات.
تعتبر فاتحة أن دور الأم التوجيهي ينتهي في سن معين، بعد ذلك على الأم أن تحترم اختيارات الأبناء وتعيش حياتها كامرأة دون أن تذيب كيانها في ذوات الأبناء، مع حرصها على التواجد إلى جانبهم كلما احتاجوا إليها.
تضحك فاتحة عند سؤالها عن السبيل إلى التوفيق بين كل هذه المهام: الزوجة والأم والطبيبة والكاتبة لتجيب: “أنا كل هذه الحالات وأكثر وقد حاولتُ طيلة حياتي قدر الإمكان إيجاد توازن بين كل هذه الشخصيات.. وهو توازن كثيرا ما يتحقق على حساب إحدى هذه الشخصيات وفقا للأولويات التي تفرضها المرحلة التي أمر بها”.
تتذكر فاتحة كيف وجدت يوما نفسها موزعة بين دور الأم والطبيبة، فقد كانت في مداومة ليلية بالمستشفى تتنقل بقسم الإنعاش بين الأطفال، لتجد زوجها في الرابعة صباحا بمكتبها يحمل ابنتها البكر بين ذراعيه، وقد تجاوزت حرارتها الأربعين. تتذكر كيف كانت منهارة ومتعبة من كثرة السهر، ولم تدر لحظتها كيف تتصرف مع هذا الطارئ: هل تتكفل بمراقبة حالة ابنتها أم تستمر في مداومتها الليلية لأن أطفالا بين يديها ينتظرون نفس الاهتمام؟
أدركت لحظتها أن عليها أن تكون أما لكل الأطفال، فوضعت ابنتها بالمكتب تراقب بين الفينة والأخرى حرارتها، تنتقل إلى قسم الإنعاش لمراقبة الحالات الأخرى، ثم تعود إلى المكتب ثانية لتضع الكمادات الباردة على جسد ابنتها إلى أن جاء الطبيب المناوب لتسلم دوره في المداومة صباحا.
لقد كان الحادث محكّا حقيقيا لها، اختبرت فيه معنى الواجب واجب الأم وواجب الطبيبة الذي أدت القسم عليه.
تقر فاتحة أن ظروف تربية أبنائها كانت مختلفة، إذ واجهت صعوبات عندما كانت ابنتها البكر في سنواتها الأولى، فقد كانت موزعة بين التداريب بالمستشفى والمداومة ومسؤولية البيت كما كانت الظروف المادية للأسرة لا تسمح بالكثير، فيما كانت تربية ابنها، الذي أنجبته سبع سنوات بعد أخته ، ميسرة بفعل استقرارها المهني بالعيادة ما كان يمنحها وقتا أكثر للتفرغ له.
ولأنها عودتهما على التصرف بحرية في الحدود التي لا تمس بحريات الآخرين واحترام اختيارات الآخر، فقد عاشا معها الانعراج الأهم في حياتها بالتفرغ للكتابة والانسحاب جزئيا من مهنة الطب محترمين رغبتها، فقد علمتهما منذ الصغر كيف يجب على الإنسان أن يتشبث بحلمه وأنه ليس هناك زمن محدد لتحقيق الأحلام.
تقول فاتحة عن أبنائها: “أنا فخورة بهما، ليس لأنني أمهما فحسب، وليس بسبب ما أنجزاه فقط، ولكن بسبب القيم الإنسانية التي يعيشان وفقها.”
الحلقة 11: “الأمومة كانت فرصة لترميم الصور المهمشة”، الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 12 يوليوز 2019، العدد 85122