الأستاذة سناء حميدات
تعد الكاتبة والأديبة المغربية فاتحة مرشيد واحدة من أهم الأقلام والأسماء التي أثثت الساحة الأدبية في المغرب وخارجه. وهي أديبة روائية وشاعرة وطبيبة حائزة على الدكتوراه في الطب سنة 1985 وعلى ديبلوم التخصص في طب الأطفال سنة 1990. مثلت كتاباتها في الشعر والرواية والقصة القصيرة تجربة فريدة لامست الواقع بحرفية عالية وأسلوب فني متميز من خلال مختلف الأجناس الأدبية. ولعل أكثر ما يحسب لها أنها تبدع نصوصها غير عابئة بسلطة القيد الأجناسي وأنها لم تلتزم بجنس بعينه. وهذا ما أضفى خصوصية على عوالمها الجمالية والفنية ومعالجاتها الإنسانية للواقع وما يعتمل به من متناقضات وهواجس وهموم، وقد اختارت في الشعر أن تخوض غمار “قصيدة النثر”. هذا الجنس الذي أثار جدلا كبيرا في الأوساط النقدية والأدبية بوصفه جنسا هجينا لا هو بالشعر ولا هو بالنثر. ورغم ذلك فقد مثلت قصيدة النثر متنفسا فنيا مميزا للعديد من الأدباء الذين أبدعوا فيه وجعلوا منه محطة أدبية وفنية راسخة. وليس أدل على ذلك من رأي الناقدة والباحثة الفرنسية سوزان برنار التي تذهب إلى أنَّ قصيدة النثر هي “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور… خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”. ومن هنا نفهم حرص فاتحة مرشيد على اختيار هذا الجنس بالذات وخاصة في بداية تجربتها إذ قدمت لقرائها سبعة دواوين شعرية أولها ديوان “إيماءات” سنة 2002. ثم “ورق عاشق” سنة 2003 و”تعال نمطر” سنة 2006 و”أغنية الليل” سنة 2008 و”آخر الطريق أوله” سنة 2009 وقد حصل ديوانها “ما لم يقل بيننا” على جائزة المغرب للشعر سنة 2011. وفي الرواية أصدرت الأديبة عدة روايات منها “الملهمات” و”مخالب المتعة”و”الحق في الرحيل”، و”التوأم”، والتي تقتحم فيها مناطق المهمش والمسكوت عنه في المجتمع بجرأة عالية واستثنائية، حيث تعالج قضايا البطالة والدعارة والخيانة والكثير من الأمراض المسكوت عنها. لتقدم في مجال القصة القصيرة مجموعتها “لأن الحب لا يكفي” وذلك باللغتين العربية والانجليزية، والتي استهلتها بمقولة إيميل سيوران “لو كان آدم سعيدا في الحب لجنَّبنا التاريخ” وتقدم للقارئ فيها ثمانية نصوص قصصية متنوعة الأحجام والقضايا والأشكال الفنية، ولعل تجول مرشيد بين مختلف الأجناس وكتابتها للرواية والقصة والقصيدة لا يعكس فوضى أو عدم وضوح الرؤية بل على العكس من ذلك هو دليل تمكن وصنعة وقدرة على الإبداع وغزارة في الفكر والأسلوب. تقول فاتحة مرشيد في هذا الصدد “لا أكتب طبق مخطط مسبق ولا أشغل نفسي بفهم غموض الكتابة. أنصت إلى صوتي الداخلي وإلى نبض العالم من حولي، أتفاعل معه بإحساسي وحدسي ثم أدعه ينساب على أوراقي كما شاءت له شياطين الإبداع أو ملائكته”. وهذا ما مكنها من سبر أغوار النفس البشرية في مواقف مختلفة ومن زوايا مثيرة ومشوقة، كاشفة عن العديد من المسكوت عنه في العلاقات والممارسات الإنسانية. وهو ما يتجلى بوضوح في روايتها “مخالب المتعة” حيث اقتحمت مرشيد عوالم المهمش وذلك بتعرية عدة ظواهر في علاقة الجسد الأنثوي بالآخر وبيع الرجل رجولته كما تبيع المرأة جسدها. إضافة الى قضية ارتفاع معدلات البطالة، وقد رأت أن “ظاهرة “الجيغولو” أو الدعارة عند الرجل ظاهرة متفشية في مجتمعاتنا العربية كما في باقي المجتمعات. وهذا يرسخ لدينا قناعة مفادها أن الروائي لا يكتب من فراغ، وأن كتاباته تعكس بالضرورة العصر الذي ينتمي إليه والتجارب الحياتية التي عاشها أو كان شاهدا عليها . تنطلق القصة من واقع مأزوم هو واقع البطالة عند الشباب وقلة ذات اليد. إذ تقدم لنا الأديبة أربعة نماذج لشخصيات حاولت كل منها أن تخرج من مأزق البطالة بطريقتها الخاصة. وتسرد كيف اختارت أحدى الشخصيات أن تمتهن مهنة “الجيغولو” وترتزق من بيع جسدها والمراهنة عليه. وقد كانت بذلك “مخالب المتعة” واحدة من أهم الأعمال الروائية التي تميزت بنفس فني بارز راوحت فيه مرشيد بين الواقع والخيال. وأما رواية “الملهمات” فقد كانت بدورها عملا روائيا لافتا. جاء في 205 صفحات من الحجم المتوسط، وهي رواية ينساب فيها السرد بنسق تلاعبي من خلال سرد حكايتين متضافرتين تتقاطع فيها المصائر، مدار الأولى: شخصية إنسانية تنتقم لسنوات صمتها بالحديث إلى زوجها الواقع تحت وطأة غيبوبة إكلينيكية، وهي تروي له أحداث قصة كانا في أحد الأزمان بطلين لها، دون أن تعلم إن كان باستطاعته أن يسمع أم لا. ومدار الثانية: كاتب يكشف أسرار منابع الإلهام لديه، وعلاقة الحب بالإبداع، عبر بورتريهات لنساء أوقدن جمر الكتابة بدواخله. وقد ناقشت مرشيد قضية الإلهام وعلاقته بالحب.. مؤكدة أن “الإلهام يأتي من الداخل” كما يقول أوسكار وايلد. وعلى حد عبارتها “الإلهام حالة تأهب لاستقبال ما قد يكون موجودا على الدوام أمام أعيننا وتلزمنا عين ثالثة لرؤيته. إنه قدرتنا على استشفاف الجمال من حولنا. قد يلهمنا منظر طبيعي رائع أو ابتسامة طفل أو كتاب نقرأه أو شريط سينمائي أو موسيقى نسمعها.. أو حب امرأة أو رجل. ورواية “الملهمات” تطرقت لهذه العلاقة بين الحب والإلهام التي كثيرا ما عبر عنها المبدعون، أمثال بيكاسو وغيرهم، هؤلاء الذين شكلت تجاربهم النفسية والجنسية منبع إلهام لا ينضب. وقد تحدثت الشخصية الرئيسة “الكاتب إدريس” عن نساء ألهمنه ويعود لهن الفضل في جعله كاتبا ناجحا. وقد نزعت هذه الرواية الهالة التي تحيط بالكاتب وتجعل منه كائنا فوق مستوى النقد. إن هو إلا إنسان يخطئ ويصيب وقد يكون ماكرا أو خبيثا أو مستبدا أو عديم الإنسانية حتى، هو كائن غير مقدس. وبذلك يمكننا الجزم بأن الرواية تعيد بذكاء لا متناه النظر في صورة الكاتب وعلاقة المتلقي به وتحمله على الفصل بين الذات المبدعة والإنسان. اتسمت “الملهمات” بجرأة في الطرح وأسلوب سلس مغرق في الشاعرية، فكانت رواية محكمة الحبكة وبالغة التشويق، متوغلة ببراعة في المناطق المعتمة من نفسية شخصياتها. كما أن ما يلفت الانتباه في متن هذه الرواية، كذلك، هو انفتاحها المثمر على مرجعيات علمية، فلسفية وأدبية كونية أثرت عوالمها. جاء على غلاف الرواية وعلى لسان الكاتب البطل كما لو كانت مرشيد تمد قارئها ببطاقة تعريف مبسطة ومختزلة لما ستحويه جنبات الرواية “أنا صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياتي، بدءاً من التي منحتني الحياة، إلى التي أيقظت الرجل بداخلي، والتي فتحت لي باب الإبداع على مصراعيه، والتي جعلت قلمي يتألق، والتي كانت ورقة مبسوطة تحت يدي. فكل كتاب عندي مقرون بامرأة، كل فرحة عندي مقرونة بامرأة، وكل انكسار كذلك ».
“الملهمات” لم تكن مجرد رواية بالنسبة لمرشيد. ليست مجرد عمل إبداعي أو إنساني تقدمه لمتلقيها. هو حياة أخرى… فلسفة أخرى … باقة من الأحلام والأماني والأوجاع والمظالم … قلوب حالمة وأخرى مكلومة يجمعها مسرح الحياة أو غرفة العمليات … نفوس أعياها الوجع والفقد فراحت تسرد ما يجول بخاطرها. كما جاء على لسان “أمينة” بطلة الرواية “لا أعلم إن كنت تسمعني أم لا.. على وجهك سكينة مَن تعدى مرحلة القلق، واستسلم لقدره.. مخلفا ترف القلق لي. لا يعلم الأطباء، ولا الشيطان نفسه يعلم، إن كنت ستستفيق من غيبوبتك لتستأنف حياة تشبثت بها بكل كيانك. حياة، لفرط ولعك بها لم تقبل أن يشاركك أحد فيها.. حتى ولو كان شريك حياتك. كثيرا ما تمنيت أن تسمعني، أن أتكلم، أن أفرغ ذاتي، لكنك تحب الأبواب المغلقة بإحكام، تخلق وراءها حياة لا تزعج حياتك، وتستقر في الغموض. آه! كم يستهويك الغموض.. وكم يقهرني”. تعالج فاتحة مرشيد نصوصها تماما كما تعالج مرضاها بفائض من الحب والإيمان بأن الإنسان هو سر هذه الحياة ومكمن الجمال فيها. وأن به وحوله تنسج كل الثنائيات والمفارقات. فمن أجله هو كانت الحياة وكان الموت وكان التاريخ وكانت الأسطورة وكان الفن بلسم كل الجراحات. وإن كان “بعض الحب” لا يكفي لتكون الحياة … فإن الكثير من الحب والأمل كافيان كي تكون الحكاية وكي يكون الأدب.
جريدة الوطن نيوز، تونس 25 يناير 2018