لفت نظري معرفة ثم إعجاب الشاعرة المغربية السيدة ( فاتحة مرشيد ) ببعض شعراء العراق حتى إنها إستعارت بيتَ شعر للمرحوم الشاعر العراقي ( بلند الحيدري ) كمُفتتح لمجموعة شعرية ضمن ديوانها تحمل عنوان ( رشفات ). قال بلند :
لا… لن تموتَ نشائدي
ما دامَ في قلبي وَتَرْ
[ ديوان ورقٌ عاشق / فاتحة مرشيد، طبعة أولى 2003 ].
ثم إستعارت شيئاً من أشعار ( مظفَّر النوّاب ) لتقدِّمَ به ديوانها الأول
[ إيماءات / الطبعة الأولى 2002 ] وضعتها مباشرة بعد إهداء الديوان لوالدها الكريم الذي يرقد الآن جريحاً في أحد مستشفيات مدينة ( جدّة ) السعودية إثر تعرّضه وقرينته أثناء موسم الحج لحادث تصادم مؤسف أودى بحياة القرينة تاركاً الوالد طريح الفراش ليس في جواره إلاّ كريمته الشاعرة ( فاتحة ) غارقةً في سوادٍ أجبروها على إرتدائه لأنها هناك مجرد ( حُرمة )…. العباءة والحجاب أمران لازمان وواجبان.
كيف أهدت الإبنة الكريمة الوفية كتابها لأبيها ؟
إلى من غرسَ في قلبي بذورالأدب،
إليكَ أبي….
بعضَ إيماءات عبرتْ زمنَ الصمت.
” الأدب “… وُلِد في الشاعرة … وُلد فيها معها وظلَّ ملازمها حتى بعدَ أنْ تخصصت طبيبةً في طب الأطفال. حب الأدب من جهة وحب الأطفال من الجهة الأخرى. حياتها مُقسَّمة بين الإثنين. في الأدب أبوها، وحب الأدب من حب أبيها الذي ترفعه إلى درجة القداسة.
الآن، ما أخذت ( فاتحة الشاعرة الطبيبة ) من مظفّر النواب :
كيفَ تُعاتبني، كيف أتوبُ
هلْ تاب النورسُ من ثِقلِ جناحيهِ المكسورينْ ؟
أعطاها ( بلند الحيدري ) وتراً تنشد فيه أو عليه أشعارها، بينما
أعطاها ( النوّاب ) جناحي نورس جريحين كسيرين. لِمَ الجناحان الكسيران وما تفسير الثبات والإصرار على حمل الأجنحة الكسيرة أو المتكسّرة ؟ وهل يطير طائر بجناح مكسور ؟ ألا يشعر بثقله مجروحاً مهشَّماً ؟ أفلا يعيقه الجرح والكسر عن الطيران الحُر ؟ وهل من حرية لجريح كسير ؟ ثمَّ… مِمَّ تتوب المرأة الشاعرة ومن تُرى هو صاحب العتاب ؟
حزن فاتحة / المرأة / الإنسان / الطبيبة / الأم
ليس صعباً وضع اليد على حزن الشاعرة الواضح كل الوضوح… فكتابها مسربلان بتلاوين الحزن الصريح في أغلب الأحيان والمبطّن والمرموز في أحايين أخرى. حزن يتفوّق على الذات البشرية، حزن مكابر رافع الرأس فخم المحتوى جليل الإشارة ، وهو في كل ذلك ليس سوى لسان الشاعرة الناطق بإرادتها وبما تهوى. إنه هي…. الفاتحة…. فاتحة الحزن وإنها هي القادرة على تصميم الختام …. خاتمة الحزن.
أعجب ـ وأنا أقرأ الأشعار ـ من خلوها ولو من مجرد بارقة فرح أو إنتشاء بأمر من أمور الدنيا الثابتة والزائلة. لكأنَّ الدنيا بكاملها لا تغريها
ولا ترفع لها عيناً أوجفناً تجاه مسألة أو ظاهرة أو حق للمرأة طبيعي أو لها كإنسان. ما سبب هذا الزهد والبعد عن الحياة وهي لما تزل في ريعان الشباب ؟؟ إنْ تكلّمت عن الحب في بداية إحدى القصائد أنهتها نهاية حزينة أو متشائمة أو فيها الكثير من الشكوك. إنها تغلق الدائرة على نهايات حزينة، فنرى البداية شيئاً والمنتهى شيئاً آخر. أمثلة من ( ديوان
إيماءات ) . { سأجمع الأسطر للتكثيف وإختصار المساحة… ولا تأثير لذلك على المحتوى الشعري }.
قصيدة ” نَفَس “
يتنامى خِلسةً بداخلي
يُجمّلني
يمحو السنينَ عن جبيني
نَفَسٌ دافيءٌ
في فاترات الليالي…
أَحقاً عاد لي أمْ تُراهُ
صدى النغماتِ الخوالي ؟
في البداية أمل، وفي الختام شك وليس غير الصدى… والصدى وهمٌ أو كالوهم، لأنه يُردد الماضي…. يكرر شيئاً حدث في الزمن الماضي… ولا رجعة لما مضى أبداً أبداً. الزمن يتحرك أماماً…. إلى الأمام لا إلى الخلف.
نقرأ في قصيدة ” خوف ” خوفاً حقيقياً تعاني الشاعرة ـ الإنسان منه أيمّا معاناة. كان هناك شك، ولكن نواجه هنا خوفاً كالغول مخيفاً، خوفاً حتى من الذات، من النفس:
أخافُ منهُ وقد فاضَ بداخلي…
أنْ تفضحه عيوني
أخافُ من غدٍ يُعلِنُ عن سرّي وجنوني
أخافُ من أحلامنا معاً
أخافُ منكَ ومنّي.
هنا إمتزج الخوف بالشك، الشك في الزمن، الشك في المستقبل. الخوف من الآتي… مما سيحمله الغد لها من مفاجآت غير محسوبة. (( أخافُ من غدٍ يُعلن عن سرّي وجنوني )). الغد… المستقبل هو ما سيكشف أسرارها، لذا فخوفها أساساً من الغد وليس من إفتضاح أمر هذه الأسرار.
(( أخافُ منكِ ومنّي ))…. يضع هذا التعبير أمامي ما قرأت صيف عام 1982 في حدائق قصر أو جامع ( قرطبة ) في بلاد الأندلس من شعر قالته ( ولاّدة بنت المستكفي ) في شاعرها ( إبن زيدون ) :
أغارُ عليكَ من نفسي ومنّي
ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ
في قصيدة أخرى جمعت الشاعرة الطبيبة بين الثلج والنار، كما فعل أبو الطيّب المتنبي قبلها بأحد عشرَ قرناً من الزمان عندما قال :
وما الجمع بين الماءِ والنارِ في يدي
بأصعبَ من أنْ أجمعَ الجدَّ والفهما
كتبت في قصيدة ” رجلٌ من ثلج ونار “
يا رجلاً من ثلجٍ ونارْ
ليتني أعلمُ متى تهبُّ ريحاً
متى يؤرّقني منكَ الصقيعْ
متى تزهو الفراشاتُ
ومتى يتلفُ الجرادُ الربيعْ .
الوئام… الإنسجام…. الهارموني البشري مفقود…. مستحيل كإستحالة الجمع بين الثلج والنار. الشاعرة في عزلة…. في شرنقة عصية على الإنفتاح رغم أنها تحمل إسم ( فاتحة ). خلطت بعض الأمل بالكثير من اليأس والسوداوية العدمية لدرجة تتمنى معها حالة من حالات الفناء…. موت الربيع…. موت الحياة بآفة طبيعية أو كارثة تأتي علينا جميعاً ونحن في لحظات إنتظار الربيع…. موسم النماء وتفتح البراعم وخضرة الطبيعة.
(( متى يتلفُ الجرادُ الربيعْ )). لماذ يا فاتحة وأنتِ الجميلة وأنتِ الجليلة وأنت الكريمة وإبنة الناس الكرام وإبنة المغرب السَمح والمفتوح على بحار ومحيطات الدنيا وجهاتها الأربع ؟؟ أتدرين أنَّ فيك قدرة خارقة على نقل عدوى تشاؤمك ويأسك وحزنك الذي يشابه حزن ( عشتار سومر ومناحتها على تموز ) إلى نفوس قرّائكِ ؟؟ إذن رحمةً بنا وأنتِ الفاتحة وأنت الخِتام.
نعم، حزنك يا فاتحة هو حزننا ، وحزننا عليك أكبر من كافة أحزانك، فالصدى دوماً أكبر وأعلى من الصوت الأصل. ورعد السماء المجلجل المخيف مبدأه صوت بسيط متواضع بين الغيوم. أنتِ الصوتُ وقرّاؤكِ الصدى.
للشاعرة قدرات غير محدودة للتعبير عن الخوف والقلق والشك وكل المشاعر التي درجنا على تسميتها بالسلبية. تعبّر عنها لا بالألفاظ المألوفة، إنما بنوع من الحس الخفي يأتيها من أعمق أعماقها السحيقة، يفرض نفسه عليها وعلى القاريء بطريقة لا إلتباس فيها ولا عَوَج. تضع إحساسها الهادر والطاغي على طاولة القاريء طاقاتٍ فيها القدرة على التدمير حيناً وعلى البناء أحياناً. إنها مهندس النفس البشرية قلقاً أو حزناً أو شكّاً أو إنتحاراً عاطفياً أو إنتكاسة نفسية طارئة أو…أو…أو…إنها فنان تشكيلي يلعب بالألوان كما يلعب الساحر فيبهر مشاهديه. وهذه هي، بلحمها ودمها، إمرأة وإنسانة كما هي. لا تخشى طبيعتها ولا تُخفي مخاوفها وقلقها ولا تكابر أبداً. تتخذ من القاريء طبيباً نفسانياً وتطلب منه أن يعالجها بالتحليل أو بالتنويم المغناطيسي، لكأنما تقول لنا جميعاً : أنا أمامكم لست إلاّ واحدة منكم وفيكم. أنا أنتم وأنتم أنا. إذا ما كنتم خائفين من أنفسكم فأنا الجريئة بينكم. أنا التي لا تخاف من شيء في الوجود. أحمل أجنحتي المهشّمة وأطير مثل مليكة النحل حتى أعلى أُفق في الكون.
[[ أنا أنتم وأنتم أنا ]] / قال الحلاّج :
أنا من يهوى ومن يهوى أنا
نحنُ روحان ِ حللنا بَدَنا
الخُذلان / القلق / الغرق / الإختناق
هذا ما يجده القاريء في قصيدة ” إختناق “.
رئتاي بحجم الفضاءِ ويخذلُني الهواءُ
ما عُدتُ أدري والقلقُ يعصفُ بي
إنْ كنتُ أخشى الغرقَ أمْ كنتُ أخشى الإختناقْ ؟
في قصيدة ” الوزرة البيضاء ” تكشف الشاعرة ـ الطبيبة عن ولعها الأصيل باللون وسحر تأثير الألوان في نفوس البشر. لكنها تمزج اللون بالألم كأنما تريد أن تقول واحداً من أمرين : سطوع وقوة تأثير اللون لا تخفف ولا تزيح آلام الإنسان. أو أنَّ الألم البشري يبقى ألماً بشرياً رغم ما في اللون من سحر وجاذبية ورموز. اللون يعمِّق شعورنا بالألم ، وبعض الألوان تعكس ما في دواخلنا من مشاعر وتتطابق مع ما نحن فيه من حزن أو فرح . تضعنا الشاعرة في هذه القصيدة مرّةً أخرى أمام ما تعاني من آلام وحيدة الجانب (( أنصتُ لآلام الأخرين ولا أحدٌ ينصتُ لآلامي )).
نُصغي لما تقول الشاعرة تخاطب نفسها ساعة أن تتأهب للذهاب إلى عيادتها لتزاول مهنتها طبيبةَ أطفال. إنها تتحرك وتتدرّج مكانياً ولونياً. تغيّر اللون والمكان.
تضع أحمر الشفاه وتكحِّل عينيها الجميلتين وترتدي ملابس الطبيبة البيض. تغادر بيتها إلى عيادتها ثم تستقبل مرضاها لتعينهم على قهر آلامهم والتخلّص مما فيهم من علل وأوجاع. تُصغي لآلامهم فمن يُصغي لما فيها من ألم ؟ أين العدالة ؟ حياتها طريقٌ ذو ممر واحد، وحيد الإتجاه. يا للحسرة !! تنتهي كل هذه الحركة الدافقة والملأى بالحيوية وكل هذه الألوان من الأحمر والكحلي ثم الأبيض …. تنتهي إلى نهاية حزينة مأساوية سوداوية : لا من يسمع في نهاية يوم عمل كامل أو يفهم أو يُصغي لألم من أزالت آلام سواها. حركة الصباح تؤول إلى خراب. فرحة أول النهار المتفائلة بالأحمر والأبيض تنقلبُ في آخر النهار إلى غم وألم. أهذه عاقبة العمل الإنساني وجزاء التضحيات من أجل الآخرين ؟ من يعالجها ومن يُشفيها ومن يُشفقُ عليها ؟ هل الإنسان ماكنة تعمل ولا تسمع كلمة ( شُكراً ) ؟ رداء الطبيب الأبيض المتفائل في أول النهار ينتهي إلى مجرد كفنٍ أبيض في آخر النهار. (( لا أحدٌ يُصغي لآلامي )). هذا منطق وشعور الشاعرة لا الطبيبة كما يُخيّلُ لي. مرضاها كُثرٌ …. أطفال وأمهات. لا وقتَ لديها خلال ساعات العمل للتفكير في أمر نفسها وفيما يخالجها من مشاعر الألم. يداهمها هذا الشعور بعد أن تقفل عيادتها وتتجه نحو بيتها. في البيت، نعم، هنا في البيت تجد المرأة ـ الإنسانة نفسها وجهاً لوجه مع الألم. هل هو ألم نفساني أو إنه ألم جسدي حقيقي ؟؟ أخشى الجواب. لماذا ؟ لأنَّ في هذا الديوان قصيدة تحمل العنوان المرعب
( سرطان / الصفحة 63 ) !! قصيدة قصيرة لكنَّ فيها كلمات تُفزع القاريء حقاً : (( الدمار ))…. (( النفي )) …. (( إحتضار )).
في قصيدة ” يأس / الصفحة 55 ” ما يؤكد صواب ما ذهبتُ إليه قبلَ قليل. قالت فاتحة ـ المرأة ما يلي :
مع الغروبِ يبزُغُ نهارها
ما عاد يهمّها مَن سيكونُ هذا الذي يمتطي جوادَها
جاهزةٌ لموتها.
الألم العميق يُميت الحواس، يشلّها حتى بلوغ حالة اللامبالاة القاتلة. لفظ الحياة والإستعداد للموت. [[ جاهزة لموتها ]].
جواد المرأة أقدس ما فيها، فلِمَ تسترخص الشاعرة هذا الجواد وتبيحه لكائنٍ من كان ؟؟ بمَ يختلف جواد فاتحة عن جواد أبي الطيّب المتنبي ؟
قال المتنبي كنايةً عن نفسه حين كان في مصر منزعجاً من كافور الأخشيدي ومما يُعاني من إصابته بحمّى :
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجَمامِ
الشاعر هنا هو الجواد، جسداً وروحاً، لا إنفصال بينهما ولا إنفصام. الراحة والإقامة الإجبارية أضرّتا بجسده لا الطعامُ ولا الشرابُ. منشأ علته الجسدية سبب نفساني لا أكثر. جواد الشاعرة ـ الطبيبة فاتحة شيء آخر قابلٌ وغير قابلٍ للإنفصام عنها. إنه الجسد أُنتزِعت الروحُ منه. سبقها المتنبي فقال :
مَنْ يهُنْ يَسهلِ الهوانُ عليهِ
ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ
راكب الجواد المنزوع الروح كطاعنٍ في جسدٍ ميّت.
هكذا تتحفنا الشاعرة بأفكار عميقة جداً تغلِّفها بأنسجة فلسفية أو حِكمٍ كتلك التي نقرأها في شعر أبي العلاء المعرّي. من أين يأتيها هذا العمق الفكري وهذا المنحى الفلسفي ؟ من أية ينابيعَ تغترف ؟ علامَ هذا السواد اليائس وهي المترفة والناجحة في حياتها الدراسية والمهنية والإجتماعية كما أحسب ؟ لا أعرفُ شيئاً عن حياتها وعلاقاتها العائلية الراهنة . هل في هذه العلاقات ما يُكدِّرُ الصفو ويُعكِّر مباهج الدنيا ؟؟ لا أدري.
الشاعرة والوالد
من بين روائع أشعار ديوان ” إيماءات ” ما خصصته الشاعرة لمعالجة موضوع أبيها في قصيدة أسمتها ” شيخوخة “. تتكون القصيدة من ثلاثة مقاطع أو صور ثلاث. صوّرت الوالد في أطوار يومية حياتية أو زمانية ثلاثـة، تدرّجت من مرحلة في العمر إلى أخرى. أفرغت فيها فلسفة الوجود والعدم وما بينهما من مراحل.
الصورة ـ المرحلة الأولى / مهادنة ( مصادقة ) الزمن
نصارع الحياة كدّاً وأتعاباً وتنشئةً لأطفالنا تسديداً لضريبة الحياة في أعناقنا لمواصلة نَفس ونبضات الوجود الحي فينا وخارجنا. تحدي الزمن بمعنى التعايش معه وقبول أحكامه الصارمة حسب فلسفة الشاعر أبي الطيّب المتنبي إذ قال :
ومن نَكَدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرى
عدوّاً له ما مِن صداقتهِ بُدُّ
. نعم، أطلق على هذه الصورة الأولى نعتَ ” صورة الزمن “. صورة شديدة الحركة دينامية الإستمرارية كثيفة بالإحساس بالزمن. إنها بحق لوحة الزمن. قالت فاتحة وهي تُزيح الستار عن اللوحة الأولى في إحتفالية شديدة المهابة مُسربلة بالجلال وشموخ تحدي الحياة :
جالسٌ ههنا بمحاذاة الزمن
أية جلسة هذه التي تحاذي الزمن ؟ هيئة يتحدى الإنسان فيها هذا الزمن وما سيحمله له وسوف لا يحمل له في نهاية المطاف إلاّ الإنسحاب من الزمن ومن حكم الزمن : الموت. حركة راجعة إلى الوراء، إلى عهود ما قبل الزمن. الزمن هو مقياس الحركة، لا حركة بلا زمن. الزمن يحتشد في هذه اللوحة فتزداد الحركة كثافةً. نستمع للشاعرة ـ الفيلسوف :
جالسٌ ههنا بمحاذاة الزمنْ
يُحاكي الذاكرةْ
يَصمتانِ حيناً وحيناً يمطرانِ
وبين زخّةٍ وأخرى دمعةٌ عالقةٌ تقاومُ حتفها
تتنكّرُ لسيلٍ يزحفُ … يجرفُ… يتلفُ
ملامحَ ما عادتْ تعكسُ نبضها.
يواجهنا الزمن في كل حركة وفي كل خطوة تخطوها الشاعرة أمامنا. نجده في الذاكرة. الشيخ يحاكي الذاكرة أي يحكي معها. الحكي حركة اللسان والشفاه، والرجوع إلى الذاكرة كذلك حركة. الذاكرة تعني التذكر، والتذكر حركة راجعة إلى الزمن الماضي. الرجوع إلى الخلف هو حركة.
الحكي ( أي المحاورة ) والتذكّر هما حركة مزدوجة. بعد فترة صمت قصيرة ينزل المطر من كليهما : من شيخنا ومن الذكرى أو الذكريات. ينزل المطر بشكل زخّات …. الزخ حركة عنيفة. الزخ العنيف لا يقدر أن يدفع دمعة واحدة يتيمة إلى السقوط. تبقى عالقة بين الجفون. رمزٌ رائع لكبرياء هذا الأب الذي أضحى شيخاً بحركة الزمن التي نسميها ” العمر “. دمعة عزيزة عصيّة على السقوط. قطرة أو دمعة واحدة لا أكثر تتصدى للسيول الزاحفة والجارفة والتالفة. الثبات يتصدى ويوقف الإجتياح الغازي. أكاد أرى الشاعرة في هذه الدمعة…. طفلةً محرومةً من الأم، يتيمة أو كاليتيمة. وفي هذه الطفلة اليتيمة يجد الأب ـ الشيخ قوّته الشامخة
وقبوله تحدي الزمن ومحاورته محاورة الند للند لا محاورة ضعيف مستكين لقوي جبّار مستبد. القوة والبركة والسمو فيك أيتها الشاعرة والإنسان النادر الوجود. منك قوة ومقاومة الأب.
هذه صورة اللوحة الأولى. لوحة الزمن المتحرك بعنف والمتحدي بجبروت وإستعلاء، يَضعُف ويستخذي أمام طفلة يتيمة دمعةً عالقةً بين جفنين هما برزخا ثنائية الموت والحياة.
الصورة ـ المرحلة الثانية / العمر لُعبة شطرنج
تنقلنا شاعرتنا الفيلسوفة من لوحة الزمن الأولى إلى فضاء المكان المختلط بالزمان في اللوحة الثانية. واجهنا الزمان هناك، بينما نُفاجأ هنا بالمكان. تقول في المفتتح :
جالسٌ ههنا على عتبة الدارِ
يفسحُ مكاناً للإنتظارْ
لا حركة إنتقالية في الجلوس. ولا حركة في مداخل بيوتنا… العتبات لا تتحرك. جمود في جمود. تتضاءل حركاتنا مع وعند الكِبَر. اللوحة الثانية أعقبت الأولى. جاءت زمنياً بعدها. نجد أنفسنا فيها قد كبرنا قليلاً أو كثيراً.
ولكن مهلاً. لا فضاء بدون حركة. لذا تختلط هنا الحركة بالمكان. فكيف عبّرت الشاعرة عن هذا الإختلاط الزماني ـ المكاني وكيف رسمت لوحته كأروع ما يكون الفكر والإبداع الإنساني المتفوّق ؟؟ كيف جمعت الزمن والمكان وكيف حرّكت الموجودات في رقعة صغيرة بمساحة رقعة شطرنج ؟؟ كان الحوار في الصورة الأولى ما بين الشيخ والذاكرة. أما حوار الصورة الثانية فإنه حوار بين الشيخ والإنتظار. كان حوار الصورة الأولى حواراً ودياً… ودوداً…. يجري بين صديق وصديق. حوار الأنداد. أما الحوار الثاني فليس كذلك. إنه حوار صراع، صراع موتٍ أو حياة يجري على رقعة شطرنج . وموت الملك في لعبة الشطرنج هذه هو رمز واضح لموت الوالد الشيخ. يخسر لعبة الحياة محاصراً في مربع صغير
تستحيل عليه فيه الحركة. هذه هي اللعبة التي يعرفها كل من مارسها. الحركة رمز الحياة. وتوقف الحركة لا يعني إلاّ الموت. يموت الملك ـ الرجل الشيخ واقفاً في مكانه المحدد لأنه لا يستطيع الحركة. يختنق بمكانه الضيّق. المكان يقتله لأنَّ الزمانَ قد خانه. كان يتحرك من خلال تحريكه لقطع الشطرنج من أبراج ( نٌسميها في العراق قلاعاً ) وبيادق ( نسميها جنوداً ) و مطايا ( نسميها أحصنة أو أفراساً )…. تجري تنقلات أو نقلات هذه القطع محكومةً بالزمن. الحركة زمن. وحين يكون الملك عاجزاً عن أن يحرك قدميه يموت. نقرأ مع ( فاتحة ) قصيدتها الرائعة :
جالسٌ ههنا على عَتَبة الدارِ
يُفسِحُ مكاناً ” للإنتظارِ “
يستأنفانِ معا على رقعةِ ” شطرنج “
لُعبةً طالت بينهما
تعِبَ الملكُ من أبراجهِ
من بيادقهِ … من مطاياه
يستعجلُ مُنتهاه
ليتَ بيدهِ القرارُ !
ذكّرتني نهاية هذه الصورة بحال جدتي لوالدتي حين ثَقُلت عليها أوجاعها
وتقدّم بها العمر. كانت تردد [[ ربي… خُذْ أمانتك…. لا تعذّبني يا رب العباد ]] . كانت تتمنى النهاية ـ الموت.
الصورة الثالثة / الرقود
لم يمت شيخنا في اللوحة الثانية. ملك لعبة الشطرنج هو مَن فارق الحياة.
بقي الشيخ يقاوم ويصارع الحياة كما فعل شيخ (( إرنست همنغواي )) في قصة (( الشيخ والبحر )) في صراعه مع أسماك القرش التي نهشت الحوت الضخم الذي كان قد إصطاد وهو في عرض البحر. جلس الشيخ في الصورة الأولى مع الزمن. وجلس في الثانية مع المكان يكافح طغيان الملوك….ملوك الشطرنج. كان في كلتيهما جالساً. أما ملَّ من الجلوس ؟ أفلمْ يتعبه الزمن ؟ أفلمْ يملَّ المكوث في المكان ؟ بلى، تعب الرجل وملَّ. وليس في لُعبة الزمن مجاملةٌ أو إستثناء. تعبَ فرقدَ. الجلوس شاقولياً أو عامودياً على كرسي أو على الأرض. أما الرقود فإنه وضع أُفُقي سواء على الأرض أو على أريكة. تقاطعَ الفضاء في هذه اللوحة مع فضائي اللوحتين السابقتين. تحوّل نوعي وإنتقالة نحو وضع جديد : التأهب للموت.
تعب الشيخ من محاورات الأنداد وأنهكه الصراع في رقعة الحياة على مُلك لا يدوم وسلطان زائل فآثر الرقود ناشداً الدِعةَ والهدوء والسلام رغم ضجة الأحفاد وحركتهم التي هي إمتداد لحركة الحياة. بل إنهم إمتداده الطبيعي الحيوي. منه جاءتهم الحياة وفيهم وضع عُشبة خلود الجنس البشري بالتواتر والإمتداد. فلنتابع وضع الشيخ الراقد على أريكة فوق سطح الأرض لا تحت التراب.
راقدٌ ههنا على سرير الذهولْ
نجماً عابراً ينتظرُ الأفولْ
تترامى جلبةُ الأحفادِ إلى سمعهِ
همساً…. وتُخرَسُ الطبولْ.
ملحمة…. ملحمة عبقرية رسمتها الشاعرة الدكتورة ( فاتحة مرشيد ) في أعماق نفوسنا بالألوان. شاعرة مقتدرة على الحركة في كافة الإتجاهات. ولها القدرة على تحريك ما لا يتحرك. وفي قلمها وأصابعها قوة سحر فعل الأمر { كُنْ فيكون }. الأفكار والألفاظ والصور تحت أمرها وطوع بنانها المخضَّب دوماً بالحناء.
الشاعرة وأمها / الزهراء
لم أقرأ رثاءً في حياتي أبلغ أو أروع من رثاء شاعرتنا للمرحومة والدتها. لقد تفوّقت في هذا الشأن على رثاء ( الخنساء ) لأخيها ( صخر ) :
يُذكِّرني طلوعُ الشمسِ صخراً
وأذكُرهُ بكل طلوعِ شمسِ
ألا يا صخرُ لا أنساكَ حتّى
أُفارقَ مهجتي ويُشقَّ رمسي
أجادت الشاعرة كما رأينا في متابعة سيرة أو مسيرة والدها وقد فارق عهد الشباب. رسمت له صوراً ولوحات عبقرية وإنتقالات وتصرفات في كل من الزمان والمكان. ثم إنتقلت مباشرةً لتخاطب وتناجي من أنجبتها لتتركها بعد حين وتنسحب من حياتها حيّةً بملء إرادتها، ثم لتغادر الحياة نهائياً رغم إرادتها. هنا نجد الشاعرة ـ الطبيبة ـ الإنسانة والمرأة الأم بين نارين لا ترحمان. والدةُ رحلت في زمن طفولتها المبكّرة من جهة، ووالد قارب سن الشيخوخة. فإلى أين وإلى من ستتجه وعلى أي صدر ستريح رأسها المتعب ؟ يُقال…. يُقال إنَّ المرأة تنسحب عاطفياً من ذويها ( أبويها ) بعد أن تتزوج وتُنجب. هذا القول غير صحيح فيما يخص حالة ( فاتحة )…. الأم بلا أم…. تواجه أباً شيخاً بلغ من العمر عِتيا. ما أن يجمعها لقاء بوالدها حتى يشخُص وجهُ والدتها الراحلة أمام عينيها. كان وجهاً (( مليحاً )) كما وصفته فيما سأنقل من شعر. هو بالضبط وجه الشاعرة فاتحة كما إخال. كيف نموت إذنْ ونحن ما زلنا أحياءً ؟ سؤال لا ينفكُّ يحير ويعذِّب الشاعرة الرقيقة المرهفة والطبيبة. ألا يساعدها ما تعلّمت وما مارست من طب على نسيان أتراحها ويخفف من آلام عذابها إذ تتذكر مناجاةً أمها التي أنجبتها صورةً أخرى دقيقة منها ؟؟ مّن ـ تُرى ـ يُنسينا أحبابنا الذين رحلوا ؟ من يعيدهم ثانيةً إلينا ؟ الوالد الشيخ ؟ كلاّ، إنه لا يستطيع . إنه عاجز. لا من بشر قادر على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء. للزمن إتجاه واحد فقط لا مَحيدَ عنه : إلى الأمام.
الوالد لا يعوِّض الأم ولا يقومُ مقامها وهنا غصّة فاتحة الكبرى.
خاطبت الشاعرة أمها التي رحلت بقصائد أسمتها ” رسائل إلى أمي “، ثم أتبعتها بقصيدة أسمتها [[ الزهراء ” في ذكراها ” ]]… ولست أدري هل كانت مناسبة ذكرى يوم مولد الوالدة أم يوم رحيلها ؟ أو مناسبة ميلاد فاتحة نفسها حيث غدت تحتفل بالمناسبة في غياب الوالدة.
إستهلّت الشاعرة مقاطع قصيدة ” رسائل إلى أُمّي ” الستة الأولى بكلمتي (( إليكِ أَكتبُ ))، في حين إفتتحت المقاطع الستة الأخرى بلفظة (( أُمّاهْ ))
التي أقرأها فيتفطر قلبي حزناً وتضامناً مع الشاعرة. بل أكثر من ذلك : كأنَّ هذه اللفظة تخرج من فمي…. كأني أخاطب بها والدتي التي رحلت في اليوم الخامس من شهر حزيران ( يونية ) عام 1972 في بغداد. هكذا جرَتني ( فاتحة ) إلى مواقعها الإنسانية القوية بفضل قوة شعورها وصدق وفائها وعمق معاناتها المركّبة من عدة عناصر. قد يفجّرُ سببٌ واحدٌ فينا أسباباً أخرى. هي حالة من حالات ( الرنين ) الفيزيائي…( الريزونانس
) . Resonance
هناك شعر شعبي عراقي بالغ الدلالة يقول : وبحجة الحلمان أبكي على كيفي. في حالات تأزم الإنسان يروح يبحث في ماضيه وذكرياته عن سبب أوعذر يستدرجه إلى البكاء تنفيساً عن همٍّ أو حزن أو معضلة آنية راهنة يواجهها في الزمن الحاضر. حالة “” إستدعاء “” لإشكالية أبكتنا في الزمن الماضي، ونحن “” الآن “” أحوج من نكون لها.
الشاعرة تعاني من متاعب لا تتردد في الإفصاح عن أغلبها. قد يكون موت الأم في رأس قائمة هذه المتاعب. من يساعدها ؟ من يقف معها وحواليها ؟ من يشاركها حزنها ومن يخفف عنها وطأة هذا الحزن ؟
رسائل إلى أُمّي
سأكثّف المقاطع مفترضاً موافقة السيدة ( فاتحة )، ففي التكثيف قوّتان في الأقل : قوّة التأثير ثم قوة الدفع. التأثير في مشاعر القاريء ودفعه لمواصلة القراءة وتقفّي الكلمات وفهم دلالاتها العميقة. سأختارُ بعض المقاطع … لأنني سأتكلم فيما بعد عنها.
إليكِ أكتبُ دون أملٍ أنْ تقرأيني يوماً
أنتِ التي ما عرفت القراءة،َ فأحساسكِ الفطريُ أغناكِ عن الكُتُب.
إِليكِ أكتبُ يا أماً هربت من طفولتي
صالحتني بها…. وبنفسي أُمومتي
يا أُمّاً أحببتها دونَ بَوحٍ
عُمراً بعمرِ معاناتي.
إليكِ أكتبُ لأصرعَ الفراغَ بداخلي
لازمني سنينَ طوالاً من زمن الضياع
كان أملي أنْ نُعيدَ التأريخَ معاً
أنْ نُقرَ بعبثِ الصراعِ وها أنتِ ترحلين
فمن يملأُ بعدكِ هذا الفراغ ؟
إليكِ أكتبُ يا ضَحوكةٌ
يا بشوشةٌ يا طفلةٌ رفضتْ أنْ تكبرَ
يا لاهيةٌ أحبّت الحياةَ وعبثتْ بالحياةِ
كيف هان عليكِ الآنَ مفارقةُ الحياةْ ؟
….
….
إليكِ أكتبُ ووجهكِ المليحُ تحت التُرابِ يٌعزّيني
وصوتكِ في أُذُني يقولُ : لا تحزني
إبتسمي حبيبتي فالحياةُ أكبرُ من الحزنِ
أكبرُ من الحبِّ أكبرُ من لقاءٍ أكبرُ من فِراقْ.
أُمّاهْ
ما بالُ الإلهام فارقني
لا الأنغامُ تُطربني ولا الأصيلُ يُشجيني
ما بالي كطفلٍ ضيّعَ لُعبتَهُ
لا شيءَ…. يُسلّيني !
قبلَ أنْ أنهي دراستي لديوان الشاعرة الدكتورة فاتحة مرشيد، أقفُ لدى مقاطع قصيدة ” رسائل إلى أُمّي ” عند إشارتين وردتا في مقطعين من هذه القصيدة. أحاول أن أتحرى جذريهما ودلالتيهما فيما يخص طفولة الشاعرة وعلاقتها بالوالدة الفقيدة. ربطت الشاعرة الإنسانة المُرهفة الإحساس ثم طبيبة الأطفال… ربطت ما بين أمرين بالغي الأهمية بالنسبة لها. أذكر ما أعني ثم أحاول تقديم التفسيرات المناسبة. قالت شاعرتنا ما يلي :
إليكِ أَكتبُ يا ضَحوكةٌ
يا بشوشةٌ يا طفلةٌ رفضتْ أن تكبرَ
يا لاهيةٌ أحبّتْ الحياةْ .
وفي المقطع الآخر قالت الشاعرة :
أُمّاه
ما بالُ الإلهام فارقني
لا الأنغامُ تُطربني ولا الأصيلُ يُشجيني
ما بالي كطفلٍ ضيّعَ لُعبتهُ
لا شيءَ يُسلّيني
ما تفسير عروج الشاعرة على عهود الطفولة وأزمنتها وإمتيازاتها في لحظات مناجاة والدةٍ رحلت…. مناجاة لا تخلو من وضع التجلّي والإنفتاح على عالم الروح الفائق الصفاء ؟
ليس عسيراً على قاريء شعر هذه المرأة ـ الإنسانة المثلى أن يربط بين حرمانها من والدتها يومَ أنْ كانت لم تزل طفلة في سنوات طفولتها الأولى.
كانت بمسيس الحاجة ليس لأمٍ حسب، إنما لطفلة ـ دُميةٍ تلاعبها وتناغيها كما تفعل كافة الطفلات الصغيرات. تريد من أمّها أن تكون هذه الدُمية ـ الطفلة الحية من لحم ودم. كانت ما زالت دون سن الفِطام العاطفي. تريد أن تلعب وأنْ تلهو كما تفعل بقية أترابها. خاطبت الفقيدة ب [[ يا طفلةٌ رفضتْ أن تكبر… يا لاهية أحبّت الحياة ]]. أجلْ، تريد فاتحة أمّاً ـ دُمية تشاركها عوالم طفولتها فرحاً وحزناً. تُريد أُمّاً تلعب معها، فاللعب هو عالم الطفولة والأطفال. ثم تنقل الشاعرة المفجوعة بفقدان والدتها…. تنقلُ المشهد المأساوي ( الدرامي ) إلى عالمها الخاص بعد أنْ يئست من عودة دميتها ـ والدتها إلى الحياة ثانيةً. تقول [[ ما بالي كطفلٍ ضيّع لعبته ]]. الآن هي الطفل… لكنها طفل فاقد دُميته. اللعبة هنا مجازٌ لغوي، يُشير أو يدلُّ على تلكم الدمية التي تكلمتُ عنها قبل قليل : الأم … الأم التي ضاعت. الأم التي ضيّع الموت جسدها وأبقى روحها حالّةً في روح فاتحة… الطفلة ـ المرأة التي نضجت وشبّت لكنها ما زالت تحنُّ لعهود الطفولة التي خسرتها …. ضاعت منها بموت الوالدة. طفلةٌ ـ أُمٌّ ضاعت، وطفولة ضاعت فالخسارة والضياع مزدوجان والمحنة مُركّبة.
ملاحظة ( 1 )
علمتُ أن للشاعرة ديوانَ شعرٍ جديداً سيصدر باللغتين العربية والفرنسية. وأنَّ في هذا الكتاب قصيدة تحمل العنوان (( مُذكَّرات لوحة )). يرسمُ فنانٌ لوحة لسيدة تقع في غرامه فتخاطبه قائلةً :
طفلٌ أنتَ
تُطاردُ الفراشاتِ وتبكي
لو لطّختْ ألوانُها الأصابع.
أنا كلُّ الفراشاتِ
إنْ أحرقتَ واحدةً بُعِثتْ أُخرى من رمادك.
هذه هي اللوحة الأجمل والأكمل. الشاعرة هي سيدة النهايات بحق. إنها تحترق بوله وحب فنانها لكنَّ من يحترق أخيراً هو هذا الفنان نفسه. تشعل في جسدها وروحها النيران لكي يتقدَّ الفنان الذي نفَّذ َ لوحةً تحمل صورتها. الحريق حريقها لكنَّ الرمادَ رماده. وإنها مثل طائر{ العنقاء } الذي ينهض حيّاً من رماده. الشاعرة لا تموت، الفنان هو المكتوب عليه أن يموت. لِمَ إقتربَ من العنقاء ؟
في مثل هذه القصائد تنأى الشاعرة عن حزنها الذي عرفنا في ديوانيها الأول والثاني. نطالبها بالمزيد من هذه الأشعار التي تُدخلُ البهجة في نفوسنا والدهشة، وتجلبُ لها الأمل والقوّة وقوّة التفاؤل.
واللهِ إني لأتمنى أن أكونَ هذا الرسّام الفنان ولكن بوضع معكوس : أنا الذي أحترق حبّاً بمن أُخاطب وعمن أكتب وأن أظلَّ رماداً يُجدد حياة التي أُخاطب. لا أطلب النهوض والقيام من رمادي، إنما أطلب الخلود للعنقاء التي أحببتُ وهويت.
ملاحظة ( 2 )
يشاء القدر الغامض والساخر من البشر أن يقضي بوفاة والد الشاعرة في حادث مؤسف أثناء أدائه شعائر الحج في مكّة. لقد إنتقل إلى العالم الآخر الحاج ( مرشيد ) والد الشاعرة والطبيبة والإنسانة المبدعة السيدة ( فاتحة
مرشيد) يومَ السبت الموافق الرابع من شهر فبراير من عام 2006 قُبيلَ أنْ أُنهي كتابتي لقراءتي لديوان ” إيماءات “…. فلا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله. الصحة والقوة والصبر والسلوان والمزيد من الإبداع للشاعرة فاتحة مرشيد.
د.عدنان الظاهر
“إيماءات فاتحة”، عدنان الظاهر، مجلة الغربة، دجنبر 2010.