0%
Still working...

إيماءات فاتحة مرشيد غنية وعميقة الدلالات

 حسن توفيق:

لي البحر تنتمي، لكن ما يأسرها فيه ليس السطح بل العمق، وهي تعشق البياض الواضح الذي تتجلي فيه الأشياء علي حقيقتها الظاهرية، لكنها تنطلق منه للكشف عن الأعماق الجوهرية، وهي تتعامل مع الطفولة، أحلي مراحل عمر الإنسان. إنها الشاعرة المغربية المرهفة فاتحة مرشيد التي تعانق عيناها أمواج المحيط الأطلسي في الدار البيضاء وتلتقي كل يوم مع الأطفال الذين يتألمون، حتي تسهم في إزاحة الألم عنهم، باعتبارها طبيبة أطفال.

قرأت لكثيرين من أدباء وشعراء المغرب، من بينهم محمد شكري الذي جذبني بصدقه المتهور أو تهوره الصادق، وعبداللطيف اللعبي الذي تعاطفت مع إيمانه العميق بقضية الحرية، فضلاً عن الشعراء أحمد المجاطي وأحمد الطريبق ومليكة العاصمي ومحممد بنيس ومحمد الأشعري وحسن نجمي، لكني- علي المستوي الإنساني- لم أعرف منهم سوي قليلين، أما فاتحة مرشيد، فإن فاتحة قراءتي لها تمثلت في ورق عاشق – مجموعتها الشعرية الثانية التي كتب عنها- من قبل- الشاعر شعبان يوسف، وقد حفزتني هذه المجموعة للبحث عن المجموعة الأولي إيماءات حيث تفضلت صاحبتها بإرسالها لي من الدار البيضاء إلي الدوحة، وأقبلت- بدوري- علي القراءة متحمساً ومستكشفاً ومستطلعاً، وهكذا تكاملت ملامح صورة فاتحة مرشيد علي صعيد الشعر، لا علي صعيد الحياة.

فاتحة مرشيد إنسانة تبوح بما في قلبها للورق باعتبارها شاعرة، ويبوح لها الآخرون بأوجاعهم باعتبارها طبيبة، وقد صور الشاعر الكبير الذي أحبه، الدكتور إبراهيم ناجي، هذا الإحساس، ربما قبل أن تولد الشاعرة الطبيبة المغربية، فهو يقول: لعل أعرفَ الناس بالناس هم الأطباء، ولعل أقل الناس تحدثاً عن الناس هم الأطباء، ذلك لأن قلوبهم من فرط ما وعت ضاقت عن الإفضاء ومن فرط ما أحست طويت علي البرحاء، لكني خُلقتُ بقلبين: قلب الطبيب وقلب الشاعر، قلب الطبيب يمتليء، وقلب الشاعر يعبر… أما الجديد الذي تصوره فاتحة مرشيد، فهو يتمثل في رسمها لملامح الطبيبة التي تكتم ألمها الخاص وتبتسم للآخرين، وترتدي البياض، وتمارس عملها بالإصغاء إلي ألم الآخر الجالس أمامها، لكن ما من أحد ينصت لألمها هي، وهذا ما صورته برهافة ودقة في الوزرة البيضاء حيث تقول:

أكتم ألمي

وأبتسم

وأهرع إلي دفاتر أيامي

أصنع الأحمر علي الشفاه

والكحل علي جفنيَّ

وأرتدي البياض.

أجلس خلف مكتب

أُنصتُ لالام الآخرين

لا أحد

ينصت لآلامي!

هنا أقول اني أتفق تماماً مع ما قاله الشاعر حسن نجمي علي ظهر الغلاف الأخير من إيماءات حيث يقول علي فاتحة مرشيد .. كأنها ترسم، طبيعتها الصامتة، وهي تكتب، ونحن إذ نقرأ هذا العمل الشعري الأول نكاد نري كلمات ممتلئة- بالذات، وهي تقاوم ما حولها من خواء كاسح، وتراوغ زمناً دائماً له سطوته.. .

يتجلي الإنسان في إيمادات وكذلك في ورق عاشق محض إنسان، تجرد تماماً من كل ما يحيط به من عالم خارج الذات، فكأن هذا الإنسان لا يري في سواه سوي أنهم أناس يشتركون معه في أنهم جميعاً من البشر، دون أن تفرق بينهم أية انتماءات دينية أو فكرية أو عرقية أو جنسية أو سياسية، وهكذا ترفض الإيماءات كما يرفض الورق العاشق كل ما في الآخرين من انتماءات

متعددة، متقاربة أو متباعدة أو متعارضة بل متناقضة، وتظل صاحبة إيماءات و ورق عاشق تبحث عن الإنسان المجرد، لكي تبوح بألمها الذي لم تستطع البوح به في سياق عملها أو رسالتها باعتبارها طبيبة،، لكن جمال البوح عند فاتحة مرشيد يكمن في أنه بوح غير مباشر، بوح يوحي ولا يقرر أو يحدد، يلجأ إلي التلميح، رافضاً تقريرية التصريح، وكأن لسان حال الشاعرة المرهفة يعيد ويردد ما قاله الشاعر العربي القديم والحكيم وكل لبيب بالإشارة يفهم لكن إشارات فاتحة مرشيد في إيماءات وفي ورق عاشق علي حد سواء، ليست إشارات مستغلقة أو غامضة، وإنما هي غنية وعميقة الدلالات، حتي وإن خضعت لعدة تفسيرات، وهذا بالطبع ما يميز الفن الجميل عن سواه.

اللغة عند فاتحة مرشيد لغة تترقرق بعذوبة، كأنها النبع الصافي، ليس فيها هدير موج البحر، بقدر ما فيها عذوبة الخرير، ولو كانت الشاعرة من أولئك الذين يكتبون دون أن تكون هناك قضايا- سواء علي المستوي العام الجماعي أو الخاص الفردي- تشغلهم، ما كانت قد استطاعت أن تكتب ما كتبت بعذوبة النبع الصافي، ولكن السؤال الذي يشغلني: ماذا يمكن أن تكون عليه هذه اللغة مستقبلاً لو أن الشاعرة أحست فيما بعد أنها تريد أن تبوح للإنسان الذي ينتمي إلي فكر معين أوله قضية عامة تؤرقه وتؤرق معه آخرين كثيرين؟.. بتعبير آخر، ماذا يمكن أن تبوح به الشاعرة للإنسان العربي، لا من خلال اللغة العربية التي تربطها بينهما خلال عملية التواصل، وإنما من خلال ما يستشعره هو وتستشعره هي نفسها تجاه قضايا إنسانية، لا تتعلق بالإنسانية جمعاء، وإنما تتعلق بأبناء العروبة؟

لا يعني هذا السؤال المطول.. التدخل فيما يود شاعر ما أن يبوح به، ولا فيما يختاره من طبيعة البوح، ذاتياً كان أو جماعياً، لكنه- فيما أتصور- سؤال يتعلق بالمستقبل، حتي لا تفاجأ فاتحة مرشيد بأنها تكرر ما سبق لها أن باحت به في إيماءاتها وفي ورقها العاشق.

قلت إن الشاعرة إلي البحر تنتمي، وفي أجواء كازابلانكا – الدار البيضاء تحيا وتتنفس، وبردائها الأبيض تعمل، لكن لغتها تنتمي للنبع الصافي، وهو ما لا تؤكده المفردات ولا بساطة صوغ الجمل وحدها، وإنما تؤكده البساطة في البوح والتلقائية الصادقة والواثقة من أنها بهذه الصورة البيضاء تستطيع النفاذ إلي كل قلب، يقدر له أن يقرأ ما يبث قلب الشاعرة الطبيبة من بوح، وتبقي التحية لفاتحة مرشيد الإنسانة التي تجمع- كما يقول ناجي- بين قلبين، قلب الطبيب، وقلب الشاعر.

جريدة “الراية القطرية” 4 يوليوز 2004
www.raya.com

Leave A Comment

Recommended Posts