إكرام عبدي
«الملهمات» لفاتحة مرشيد عمل روائي جاء في 205 صفحات من القطع المتوسط، صدر حديثا عن المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء. جمالية الرواية تكمن في بصمة الكاتبة الخاصة البعيدة عن كل ترهل وتكرار ونمطية، نفس روائي سلس وتلقائي بعيد عن كل تكلف واصطناع مبحر في آفاق مجازية واستعارية غاية في الكثافة والأناقة، وإبحار في عوالم فلسفية فنية جمالية وأدبية كونية غاية في الروعة، فضاء يظل فيه الحزن والألم والفقد والفرح والإلهام والخيانة والرغبة والحنين والتذكر هم أسياد الموقف، وهي رواية تلعب لعبة الحكي عبر حكايتين لأمينة وإدريس اللذين فرقهما حبهما لعمر وجمعهما موته، حكايتان تتناسل منهما العديد من الحكايات الصغرى، حكاية أمينة زوجة عمر الناشر الذي يعاني من غيبوبة إكلينيكية، وحكاية إدريس الكاتب الناجح المدين لكل النساء اللائي ألهمنه، وقدحن زناد الكتابة لديه، وأمام زوجها الغائب تستغل أمينة هذا الصمت القدري الإكلينيكي لزوجها لتبوح بوحا شفيفا وعميقا تستحضر حكايات صغرى كانت تصاحب رحلة صمت وألم مع زوجها، ما كان بإمكانها أن تحظى بهذه الفرصة فيما سبق، وعبر تقنية الفلاش باك تستعيد كل تلك اللحظات سواء تلك التي جمعتها بعمر أو بالمحيطين بها ممن كانوا يملأون ذاك الفراغ الذي يكبر بداخلها يوما بعد يوم، تقنية استعادية أبرزت قدرة الكاتبة على الولوج لتلك المناطق المعتمة في النفس البشرية، وسبر أغوارها بعيدا عن كل بكائية وذاتية ورومانسية بحس إنساني عال، وبنفس التقنية يسترجع إدريس الكاتب الناجح حكاياته مع ملهماته، فعلاقة كتابته بالمرأة، أشبه بطرس في حاجة إلى حبر يجعل كتابته تفيض استيهامات واخضرارا وضوءا وبهاء وأثيرية، نساء ألهمنه لكن إحداهن كانت السبب في إصابته بسرطان البروستاتا، فكانت المرأة مصدر إلهام وشقاء في الآن نفسه، وهذا السبر في أغوار الذات الإنسانية تفسره فاتحة مرشيد في أحد حواراتها باهتمام خاص بالنفسية البشرية وبالتحليل النفسي.
فحكاية المرأة الثرية التي تحس بالضياع والتيه في هجير العالم وفقدان المعنى، لا نجدها في رواية «الملهمات» فقط، بل كذلك في رواية «مخالب المتعة»، فهنا تبرز جرأة الكاتبة على طرح موضوع مسكوت عنه اجتماعيا، وهو موضوع طرح في الرواية العربية النسائية، وإن كانت أغلب الروايات تكرس قدرة الرجل على الجمع بين الزوجة والعشيقة، ففي رواية فاتحة مرشيد المرأة هي أيضا قد تعانق حياة سرية أكثر حرارة ودفئا وإن كانت مرفوضة اجتماعيا، لكنها قد تكون بديلا عن حياة زوجية علنية يلفها الصقيع والصمت. تقول في ص 169 من رواية «الملهمات»: «جميل حقا أن تكون للمرء أسرار خاصة وعوالم سرية تسرح فيها وسط الزحام».
وشخصيات فاتحة مرشيد هم من النخبة المثقفة الثرية، لكنها قلقة وحائرة تتجاذبها الكثير من المغريات، المال الثروة الحب الرغبة والمتعة، وحالة اللاتوازن أو القلق الوجودي السارتري الذي تعاني منها شخصيات الرواية أمر طبيعي في عالم متغير انهارت فيه القيم وانجرف فيه الإنسان بشكل خطير في دوامة الآلة الاستهلاكية.
وفاتحة مرشيد هي طبيبة أطفال في البداية وشاعرة، حيث صدر لها ستة دواوين شعرية ترجمت إلى عدة لغات، وفاز آخرها «ما لم يقل بيننا» بجائزة المغرب للشعر 2010. فضلا عن روايتين: «لحظات لا غير»، و«مخالب المتعة»، وهذه الانعطافة من الشعر إلى الرواية، هي ما تفسر اللغة الشاعرية التي تنضح بها روايتها ناهيك عن التكثيف الشعري، مما يجعل روايتها كتوليفة حكائية متناغمة ومتماسكة وشاعرية وعميقة تجترح المناطق الصعبة من الوجود الإنساني بجرأة لا متناهية